الفصل الثاني
ليست الثورة الدائمة "قفزة" تقوم بها البروليتاريا، وإنما هي إعادة بناء الأمة تحت قيادتها

كتب راديك:

"إن السمة الأساسية التي تميز الاتجاه الفكري الذي يسمى نظرية وخطة "الثورة الدائمة" عن نظرية لينين تكمن في خلطها مرحلة الثورة الديموقراطية بمرحلة الثورة الاشتراكية".

وترتبط بهذا الاتهام الأساسي، أو بالأحرى تنتج عنه اتهامات ليست أقل خطورة منه، كأن يقول أن تروتسكي لم يفهم أنه "من المستحيل أن تتحقق الثورة الإشتراكية في ظروف روسيا إذ هي لم تنبثق عن الثورة الديموقراطية"، وينتج عن ذلك أيضا الإتهام "بالقفز عن مرحلة الدكتاتورية الديموقراطية". أو أن يقول أن تروتسكي قد "أنكر" دور الفلاحين، وهنا "تلتقي آراء تروتسكي بآراء المنشفيك" أكرّر ما ورد سابقا: إن الهدف من جميع هذه الاتهامات هو إثبات خطأ موقفي من قضايا الثورة الصينية الأساسية بالبراهين المستفيضة.

ما دامت القضية تتعلق بالقسم المسموح به رسميا من كتابات لينين، فالمسلّم به أن لراديك مطلق الحرية في أن يستشهد به هنا وهناك. وهذا ما يفعله، لأن هذا القسم من كتابات لينين موجود "في متناول" الجميع. إني سوف أبين عمّا قليل أن تهجمات لينين ضدي كانت ذات طابع آني ليس إلاّ، ولم تكن صحيحة أي أنها لم تكن تصور موقفي الحقيقي كما كان عليه حتى في عام 1905. ففي كتابات لينين ذاته، هناك ملاحظات مختلفة كل الاختلاف عن هذه الكتابات المتداولة ومناقضة لها، وأحكام أكثر دقة حول موقفي من قضايا الثورة الأساسية. غير أن راديك لم يبذل أي مجهود لتوحيد ملاحظات لينين المختلفة والمتباينة. وان يجلي هذه التناقضات الناجمة عن السجال النظري بمقارنتها بآرائه الفعلية(1).

في عام 1906، نشر لينين مقالا لكاوتسكي حول القوة الدافعة للثورة الروسية وقدّم له. وبدون أن أعلم بذلك، قمت أنا بدوري بترجمة مقال كاوتسكي هذا خلال وجودي في السجن وقدّمت له ونشرته في كتابي "دفاعا عن الحزب". وقد أبدى كلانا اتفاقا كاملا مع تحليل كاوتسكي. كان بليخانوف قد تساءل: "هل إن ثورتنا ثورة برجوازية أم اشتراكية ؟" فأجاب كاوتسكي مؤكدا أن الثورة لم تعد برجوازية إلاّ أنها لم تصبح اشتراكية بعد، أي أنها تمثل مرحلة انتقالية بين الواحدة والأخرى. وبهذا الصدد كتب لينين في مقدمته:

"ثورتنا، هل هي برجوازية أم اشتراكية في طابعها العام ؟ يقول كاوتسكي أن هذه الصيغة قديمة. إن السؤال لا يطرح بهذا الشكل، ليست هذه الطريقة الماركسية لطرحه. إن الثورة في روسيا ليست ثورة برجوازية، لأن البرجوازية لم تعد إحدى القوى الدافعة للحركة الثورية الحالية في روسيا. ولكن الثورة في روسيا ليست ثورة اشتراكية."
(لينين: المؤلفات الكاملة: المجلد 8 – ص 82 – الطبعة الروسية).

وبالرغم من ذلك، فمن السهل أن نجد عددا لا بأس به من النصوص التي كتبها لينين قبل هذه المقدمة أو بعدها والتي يصف فيها الثورة الروسية بأنها ثورة برجوازية. هل هذا تناقض ؟ إذا كنا نريد أن نحدد موقفا من لينين بنفس الأساليب التي يعتمدها نقاد "التروتسكية" الحاليون، لوجدنا، بسهولة، عشرات بل مئات من مثل هذه التناقضات. ولكننا نعلل وجودها، للقارئ الجدّي النبيه، بالاختلاف في طرق معالجة الموضوع في أوقات مختلفة، وهذا لا يسيء بأي حال من الأحوال إلى الوحدة الأساسية لفكرة لينين.

ومن جهة أخرى، فإني لم أنكر قط الطابع البرجوازي للثورة فيما يتعلق بمهامها التاريخية العاجلة، ولكني تنكرت لهذا الطابع فيما يتعلق بقواها المحركة وتطلعاتها. إن الكتاب الأساسي الذي عالجت فيه موضوع الثورة الدائمة في تلك الفترة (1905-1906) يبدأ بالمقطع التالي:

"إن الثورة في روسيا قد فاجأت الجميع ما عدا الاشتراكيين-الديموقراطيين. فمنذ زمن طويل تنبأت الماركسية بحتمية الثورة الروسية، التي كان لابد منها من أن تنفجر نتيجة للصراع القائم بين التطور الرأسمالي من جهة وبين قوى الحكم المطلق المتحجرة من جهة أخرى… وعندما أطلقت الماركسية على هذه الثورة صفة الثورة البرجوازية، كانت تشير إلى أن الأهداف الموضوعية العاجلة للثورة تتلخص في توفير "الظروف الطبيعية لتطوير المجتمع البرجوازي كله". ولقد كانت الماركسية على حق، هذا أمر لا يحتاج إلى نقاش أو إثبات. إن مهمة من نوع جديد تواجه الماركسيين الآن: إنهم مطالبون بأن يكتشفوا "الإمكانات" الكامنة في الثورة التي تتولى أمامنا بواسطة تحليل تركيبها الداخلي… إن الثورة الروسية تتميز بطابع فريد هو حصيلة الاتجاه الخاص الذي سار فيه التطور الاجتماعي والتاريخي عندنا، والذي يفتح أمامنا آفاقا تاريخية جديدة"
(تروتسكي: "ثورتنا" –1906- المقالة "نتائج وتوقعات" –ص 224- الطبعة الروسية).

"إن العبارة السوسيولوجية العامة "ثورة برجوازية" لم تعد قادرة على حل القضايا السياسية والتكتيكية ولا التناقضات التي يطرحها علينا تركيب ثورة برجوازية معينة".
(المرجع ذاته –ص 249).

وهكذا، فإني لم أنكر الطابع البرجوازي للثورة التي كانت على وشك الحدوث في ذلك الحين، ولم أخلط الديموقراطية بالاشتراكية. ولكني حاولت أن أبين أن الجدلية الطبقية للثورة البرجوازية في بلدنا سوف تأتي بالبروليتاريا إلى الحكم، وأنه لا يمكن تنفيذ المهام الديموقراطية بدون تحقيق دكتاتورية البروليتاريا.

ولقد كتبت في المقالة ذاتها (1905-1906) ما يلي:

"إن البروليتاريا تنمو وتتضاعف قوتها بنمو الرأسمالية. بهذا المعنى يكون تطور الرأسمالية هو تطور البروليتاريا في اتجاه تحقيق دكتاتوريتها. على أن توقيت انتقال الحكم إلى الطبقة العاملة لا يعتمد بشكل مباشر على المستوى الذي بلغته قوى الإنتاج ولكن على علاقات الصراع الطبقي وعلى الوضع العالمي وأخيرا على عدد من العوامل الذاتية كتقاليد الطبقة العاملة ومبادرتها واستعدادها للنضال.
من المحتمل أن يصل العمال إلى الحكم في بلد متخلف اقتصاديا قبل وصولهم إليه في بلد متقدم… إن التصوّر أن قيام دكتاتورية البروليتاريا يعتمد بطريقة ما على التطور التقني وعلى موارده إنما هو زعم من مزاعم المادية "الاقتصادية" التافهة. إن وجهة النظر هذه لا تمت للماركسية بأية صلة.
إن الثورة الروسية سوف تخلق برأينا، الظروف التي تمهد لانتقال السلطة إلى العمال، وفي حال انتصار الثورة يتوجب عليها أن تمهد لهذا الانتقال، قبل أن يتسنى للسياسيين البرجوازيين الليبراليين أن يعرضوا كل براعتهم في تسيير الحكم".
(المرجع ذاته –ص245).

إن هذه الأسطر تحوي هجوما على "الماركسية" المبتذلة التي كانت شائعة خلال عام 1905 وعام 1906 والتي طبعت مؤتمر البلاشفة في مارس 1917 قبل وصول لينين، وكان خطاب ريكوف في مؤتمر أبريل خير تعبير عن هذا الاتجاه. وفي مؤتمر الكومنتيرن السادس كانت هذه الماركسية-المزيفة، أي هذا المنطق الدعيّ المطعم بالذهنية المدرسية المنحرفة يشكل القاعدة "العلمية" لخطاب كيوسينين وآخرين، آخرين غيره. وقد جرى هذا كله بعد عشر سنين من انتصار ثورة أكتوبر !

ما دمت لن أستطيع أن أعرض هنا جميع جوانب الخط الفكري الذي تتضمنه مقالة "نتائج وتوقعات" فسوف أكتفي بالاستشهاد بمقطع جامع من مقال لي في صحيفة "ناشالو" (البداية) عام 1905.

"إن البرجوازية الليبرالية عندنا تبرز كقوة معادية للثورة حتى قبل أن تبلغ الثورة ذروتها. عند كل لحظة حاسمة يزيدنا الديموقراطيون المثقفون قناعة بعقمهم. أما الفلاحون كمجموع فإنهم يمثلون قوة أساسية من قوى الانتفاضة. ولكنهم لن يخدموا الثورة إلاّ إذا استولت قوة ثورية على الدولة. إن المكانة الطليعية للطبقة العاملة في الثورة والارتباط المباشر بينها وبين الريف الثوري وبسط نفوذها على الجيش، كل هذا يدفعنا حتما إلى استلام الحكم. انتصار الثورة الكامل هو انتصار البروليتاريا. وهذا يعني بدوره ديمومة الثورة".
(تروتسكي: "ثورتنا" ص172- الطبعة الروسية).

إن نوقع قيام دكتاتورية البروليتاريا ينبثق من الثورة الديموقراطية البرجوازية على عكس ما يقوله راديك. ولهذا السبب بالذات تسمى الثورة ثورة دائمة (غير متقطعة). إن دكتاتورية البروليتاريا لن تموت بعد انتهاء الثورة الديموقراطية كما يدعي راديك. فلو كان الأمر كذلك لكانت مستحيلة الحدوث في روسيا لأن البروليتاريا الضعيفة عدديا لا تستطيع الوصول إلى الحكم في بلد متخلف إذا كان قد تمّ تحقيق أهداف الفلاحين في المرحلة السابقة. لا. إن دكتاتورية البروليتاريا محتمة بل حتمية على أساس الثورة البرجوازية. وبالتحديد لأنه لا يوجد قوة أخرى تستطيع تنفيذ مهام الثورة الزراعية ولا يوجد طريق أخرى إليها. وهذا ما يجعل إنضاج الثورة الديموقراطية إلى ثورة اشتراكية أمرا متوقعا.

"إن مجرد اشتراك ممثلي البروليتاريا في الحكم ليس كأسراء حرب لا حول لهم ولا قوة ولكن كقوة قيادية، يهدم الحد الفاصل بين برنامج الحد الأدنى وبرنامج الحد الأقصى، أي أنه يضع قضية التجميع في حيز التنفيذ. وإن الحد الذي يتوقف عنده تقدم البروليتاريا في هذا الاتجاه ليتوقف على العلاقة بين القوى وليس على نوايا حزب البروليتاريا الأصلية.
لهذا السبب، لا معنى للحديث عن شكل خاص من أشكال دكتاتورية البروليتاريا في الثورة البرجوازية أو عن دكتاتورية بروليتارية ديموقراطية (أو عن دكتاتورية العمال والفلاحين). إن الطبقة العاملة لا تستطيع أن تحتفظ بالطابع الديموقراطي لدكتاتوريتها إلاّ إذا تخطت حدود برنامجها الديموقراطي…
إن البروليتاريا بمجرد استيلائها على الحكم سوف تقاتل للاحتفاظ به إلى النهاية. وحيث يكون أحد أسلحتها في هذا القتال للاحتفاظ بالحكم وتدعيمه هو التحريك والتنظيم في الريف بشكل خاص، يكون سلاحها الآخر هو انتهاج سياسة تجميعية. ولكن لن يكون التجميع الطريق الحتمية الوحيدة إلى الأمام من الموقع الذي يجد الحزب الحاكم نفسه فيه فحسب، بل أداة الاحتفاظ بهذا الموقع بمساندة البروليتاريا أيضا"
("نتائج وتوقعات" –ص258).

فلنذهب إلى أبعد من ذلك. كتبت عام 1908 ضد المنشفيكي "شيريفانين" ما يلي:

"إننا نعرف عن مثال تقليدي لثورة مهّد انتصار دكتاتورية البرجوازية الصغيرة الإرهابية فيها لقيام حكم البرجوازية الرأسمالية. كان ذلك في فترة يشكل فيها الحرفيون وأصحاب الحوانيت غالبية البرجوازية الصغيرة. فساروا تحت قيادة اليعاقبة. إن غالبية سكان المدن في روسيا اليوم من البروليتاريا الصناعية. هذه المقارنة وحدها تؤكد وجود وضع تاريخي لا يمكن أن يتم انتصار الثورة "البرجوازية" فيه إلا من خلال استيلاء البروليتاريا على السلطة الثورية. فهل تفقد الثورة بذلك طابعها البرجوازي ؟ نعم ولا. لأن هذا لا يعتمد على الصفة الرسمية ولكن على الاتجاه الذي تسير فيه الأحداث اللاحقة. فإذا تمكن تحالف الطبقات البرجوازية، بما فيها الفلاحون الذين حررتهم البروليتاريا، من إسقاط حكم البروليتاريا تحتفظ الثورة بطابعها البرجوازي الضيق. أما إذا برهنت البروليتاريا من جهة أخرى، على مقدرتها واستطاعت أن تحرك كل قوى حكمها لكي تخترق إطار الثورة الروسية الوطني، يمكن أن تغدو الثورة بداية طوفان اشتراكي عالمي. إن السؤال: أية مرحلة ستبلغها الثورة الروسية ؟يسمح طبعا بجواب مشروط. أمر واحد صحيح تماما ولا يرقى إليه الشك هو أن مجرد تسمية الثورة الروسية بثورة برجوازية لا يفيدنا بأي شيء عن طبيعة تطورها الداخلي ولا يعني، بأي حال من الأحوال، أنه يتوجب على البروليتاريا أن تكيف خططها مع سلوك الديموقراطية البرجوازية بوصفها المطالبة الشرعية الوحيدة بالحكم".
( تروتسكي: "العام 1905" –ص263- الطبعة الروسية).

وفي المقالة نفسها ورد ما يلي:

إن ثورتنا، التي هي ثورة برجوازية بالنسبة للمهام المباشرة التي انبثقت عنها، لم تتمخض عن أية طبقة برجوازية مؤهلة لقيادة الجماهير الشعبية بعد أن تدمج وزنها الاجتماعي وخبرتها السياسية بحيوية الجماهير الثورية، ذلك بسبب التمايز الطبقي الحاد في المناطق الصناعية. إن الجماهير المضطهدة من عمال وفلاحين، بعد أن حرمتهم من كل شيء إلا من حقها في أن تنهل من مواردها الخاصة، مطالبة بأن توفر الشروط السياسية والتنظيمية الضرورية لإحراز انتصارها، في مدرسة الصراعات العنيفة والهزائم القاسية. فليس لها من طريق أخرى غير هذه الطريق".
(المرجع ذاته: ص 267-268).

مرة أخرى سوف نستشهد من "نتائج وتوقعات"حول النقطة التي يرتكز عليها الهجوم بشكل خاص: قضية الفلاحين. في فصل بعنوان "البروليتاريا في الحكم والفلاحين" ورد ما يلي:

"ولكي ترسخ البروليتاريا حكمها، لا تستطيع إلا أن توسع قاعدة الثورة. فتنجذب إلى الثورة قطاعات كبيرة من الجماهير الكادحة، وفي الريف بخاصة، وتنتظم سياسيا فقط بعدما تقف طليعة الثورة - بروليتاريا المدن- على دفة الحكم. ويتم القيام بالتحريك والتنظيم الثوريين بمساعدة موارد الدولة. وتغدوا السلطة التشريعية أداة فعالة لدفع الجماهير في الاتجاه الثوري…أن مصير أبسط المصالح الفلاحية الثورية، مصالح الفلاحين ككل، كطبقة، مرهون بمصير الثورة كلها أي بمصير البروليتاريا.
إن البروليتاريا في الحكم ستقف أمام الفلاحين بوصفها الطبقة التي حررتهم. وحكم البروليتاريا لا يعني المساواة الديموقراطية، والحكم الذاتي الحر، ووضع كل عبء الضرائب على عاتق الطبقات الميسورة، وتذويب الجيش النظامي في الشعب المسلح وإلغاء الضرائب الكنسية الإلزامية فحسب، بل أيضا الاعتراف بكل التغيرات الثورية (الاستيلاء على الأرض) التي أحدثها الفلاحون في العلاقات الزراعية أيضا.على البروليتاريا أن تجعل من هذه التغييرات نقطة الانطلاق نحو مزيد من الإجراءات تقوم بها الدولة في الحقل الزراعي. في ظروف كهذه، سيكون من مصلحة الفلاحين، في المرحلة الأولى والصعبة من الثورة، أن يحافظوا على نظام حكم البروليتاريا (الديموقراطية العمالية) في جميع الأحوال، مثلما كان للفلاحين الفرنسيين مصلحة في المحافظة على نظام حكم نابليون العسكري الذي ضمن للمالكين الجدد حرمة ممتلكاتهم بقوة حرابه…
ولكن، أليس من المحتمل أن يزيح الفلاحون البروليتاريا ويحتلوا مكانها ؟ إن هذا أمر مستحيل. فكل التجربة التاريخية تدحض هذا الافتراض. إن التجربة التاريخية تبيّن أن الفلاحين عاجزين تماما عن القيام بدور سياسي مستقل."
("نتائج وتوقعات" –ص251).

لقد قيل هذا كله في عام 1905 وليس في عام 1929 ولا حتى في عام 1924. فهل يبدو أني "أتجاهل الفلاحين"، ذلك ما أود معرفته ؟ أين "القفز" عن القضية الزراعية هنا ؟ أما آن الأوان، أيها السادة، لتكونوا أكثر دقة في أقوالكم ؟

والآن، فلنتبين مدى "دقة" ستالين حول هذا الموضوع. كتب مفكر الردّة في الحزب، مشيرا إلى مقالاتي التي كتبتها في فبراير 1917 في نيويورك والتي تتفق جملة وتفصيلا مع مقالات لينين في جينيثا:

"… ليس هناك أي تشابه بين رسائل تروتسكي ورسائل لينين لا من حيث المحتوى ولا من حيث الاستنتاجات التي يخلص إليها، لأنها تعكس شعار تروتسكي المعادي للبلشفية: "لا قيصرية بل حكومة عمالية". هذا الشعار الذي يعني القيام بالثورة بمعزل عن الفلاحين."
(ستالين "المؤلفات الكاملة":المجلد 6 -ص 349- الطبعة الإنجليزية.)

ما أروع وقع هذه الكلمات التي تحكي عن "الشعار المعادي للبلشفية" المنسوب لتروتسكي: "لا قيصرية بل حكومة عمالية" ! فلو ترك الأمر لستالين، لفضّل أن يكون الشعار هكذا" لا حكومة عمالية، بل القيصرية". سنعود بعد قليل إلى هذا الشعار "المنسوب" إلى تروتسكي. فلنستمع الآن إلى رجل آخر يطمح إلى أن يكون علما من أعلام الفكر المعاصر، إنه أقل جهلا من ستالين ولكنه مثله قد تخلى عن أي نوع من الأمانة الفكرية – أعني به لوناتشارسكي:

"في عام 1905، كان ليف دافيدوفيتش تروتسكي يميل إلى الرأي القائل أنه على البروليتاريا أن تبقى معزولة[ !] وأن لا تدعم البرجوازية لأن ذلك الموقف هو موقف انتهازي، ولكن يصعب على البروليتاريا أن تحقق الثورة بمفردها لأنها لم تكن في ذلك الحين أكثر من 7 أو 8% من مجموع السكان. لذا، يقرر ليف دافيدوفيتش أنه على البروليتاريا أن تحتفظ بحالة من الثورة الدائمة في روسيا، أي أن تناضل لأجل تحصيل أكبر عدد ممكن من الإنجازات حتى تؤدي شرارات هذه الشعلة إلى تفجير مستودع البارود العالمي كله."
(مجلة "سلطة السوفييت" – العدد 7 – عام 1927: "حول طبيعة الثورة الروسية" بقلم ا. لوناتشارسكي – ص10).

يجب على البروليتاريا أن "تبقى معزولة" حتى تؤدي الشرارة إلى تفجير مستودعات البارود… ما أجمل ما يكتبه بعض "مفوضي الشعب"(2) الذين لم "يعزلوا" بعد مع أن رؤوسهم الصغيرة مهددة بالخطر. ولكننا لا نريد أن نقسو على لوناتشارسكي، فمن كل حسب طاقته… وفي التحليل النهائي نجد أن تفاهاته ليست أسوأ من تفاهات الكثيرين غيره.

ولكن كيف يجب على البروليتاريا أن "تبقى معزولة" بالنسبة لتروتسكي ؟ للرد على هذا السؤال سوف أستشهد بمقطع من منشور لي ضد "ستروف" (عام 1906). وبالمناسبة، فقد بالغ لوناتشارسكي في كيل المديح لهذا المنشور عند صدوره. في الفصل المتعلق بمجالس المندوبين (السوفييت) ورد أنه بينما كانت الأحزاب البرجوازية "ما تزال على الهامش" بعيدة عن الجماهير الشعبية المستيقظة:

"… فارتكزت الحياة السياسية حول السوفييت العمال. وكانت الجماهير البرجوازية الصغيرة في المدن تبدي عطفا واضحا على السوفييت (عام 1906) بالرغم من أنها على درجة عالية من الوعي. فالتجأ جميع المضطهدين والمعذّبين إليه (أي السوفييت). وتخطت شعبيته حدود المدينة. فكان يتلقى "العرائض" من الفلاحين الذين يعانون من المظالم، وانهمرت عليه مقررات الفلاحين وتوافدت إليه الوفود من التجمعات الريفية. هنا، وهنا فقط كانت أفكار الأمة وتأييدها وتأييد الدول الديموقراطية الحقيقية وليست المزيفة منها."
(تروتسكي: "ثورتانا" – ص 199).

في جميع هذه المقاطع، ويمكن مضاعفتها مثنى وثلثا وعشرا، وصفت الثورة الدائمة بأنها ثورة تكتل الجماهير المضطهدة في المدينة والريف حول البروليتاريا المنظمة في السوفييت، وأنها ثورة وطنية ترفع البروليتاريا إلى سدّة الحكم وتفسح المجال أمام إنضاج الثورة الديموقراطية إلى ثورة اشتراكية.

ليست الثورة الدائمة قفزة معزولة تقوم بها البروليتاريا، إنها إعادة بناء الأمة تحت قيادتها. على هذا النحو فهمتُ توقع الثورة الدائمة وفسرته ابتداء من عام 1905.

إن راديك يخطئ أيضا بصدد بارفوس(3)، الذي كانت آراؤه حول الثورة الروسية عام 1905 تشابه آرائي فيها دون أن تكون هي نفسها، عندما يكرر الصيغة المعدة سلفا عن "القفزة" التي قال بها بارفوس من حكومة قيصرية إلى حكومة اشتراكية- ديموقراطية. والواقع أن راديك يدحض نفسه بنفسه عندما يشير في قسم آخر من مقاله، بشكل عابر ولكنه صحيح، إلى الاختلاف بين آرائي في الثورة الروسية وبين آراء بارفوس فيها. لم يكن بارفوس يعترف بالرأي القائل أنه بمقدور حكومة عمالية في روسيا أن تسير نحو الثورة الاشتراكية، أي أنها تنضج إلى دكتاتورية اشتراكية من خلال إنجازها للمهام الديموقراطية. كان دور الحكومة العمالية يقتصر، بالنسبة لبارفوس، على تنفيذ المهام الديموقراطية فقط، وهذا ما يؤكده المقطع المكتوب عام 1905 الذي يستشهد به راديك. في حالة كهذه، لا بد لنا من التساؤل: أين هي القفزة إلى الاشتراكية ؟ فكل ما كان يدور في خلد بارفوس في ذلك الوقت هو إنشاء نظام حكم عمالي على غرار "النموذج الأسترالي" بعد نجاح الثورة. لقد وضع بارفوس روسيا وأستراليا على مستوى واحد حتى بعد انتصار ثورة أكتوبر، غير أنه كان في ذلك الحين قد اتخذ موقفا يصنفه إلى أقصى يمين النزعة الإصلاحية-الاجتماعية. وقد إدعى بوخارين، في هذا الصدد، أن بارفوس قد "ابتكر" مثال أستراليا بعد فوات الأوان ليغطي أهدافه القديمة المتعلقة بالثورة الدائمة. ولكن الأمر لم يكن كذلك. ففي عام 1905، رأى بارفوس في استلام البروليتاريا للحكم الطريق إلى الديموقراطية وليس إلى الاشتراكية، أي أنه عيّن للبروليتاريا الدور الذي لعبته بالفعل في الفترة ما بين الشهر الثامن والشهر العاشر بعد ثورة أكتوبر. ولكي ننظر إلى أبعد من ذلك، كان بارفوس حتى في ذلك الحين يتطلع إلى الديموقراطية الأسترالية، أي إلى نظام حكم يشترك فيه حزب العمال ولكنه لا يحكم وينفذ أهدافه الإصلاحية فقط كتكملة لبرنامج البرجوازية. إنه لمن سخريات القدر أن يكون الاتجاه الرئيسي للجبهة اليمينية-الوسطية(4) بين عام 1923 و1928 داعيا إلى دفع دكتاتورية البروليتاريا باتجاه وضع يشابه النموذج الأسترالي من الديموقراطية العمالية، أي باتجاه تحقيق توقع بارفوس. ويتضح الأمر أكثر فأكثر عندما نتذكر أن "الاشتراكيين" البرجوازيين الصغار في روسيا كانوا، منذ عقدين أو ثلاثة، يصورون استراليا باستمرار على أنها بلد العمال والفلاحين الذين انغلق على سائر أجزاء العالم وراء حاجز من الرسوم الجمركية المرتفعة وراح ينفذ المشاريع "الإشتراكية" مشيدا بذلك صرح الاشتراكية في بلد واحد. كان الأحرى براديك، لو أنه ابتغى السير في الطريق الصحيح أن يبرز هذا الوجه من القضية عوضا عن اجترار الخرافات حول قفزتي المروعة عن المرحلة الديموقراطية.


(1) أذكر أن بوخارين قد استشهد بالكتابات نفسها في المؤتمر الثاني للجنة المركزية للأممية الشيوعية، فقلت له: "ولكن هناك كتابات لينين تتناقض مع ما قلته". وبعد برهة من الارتباك أجاب بوخارين: "أعرف ذلك. أعرف ذلك. ولكني أنتقي منها ما أحتاجه أنا. وليس ما تحتاجه أنت". هو ذا مثال رائع عن سرعة خاطر هذا المفكر. (ل.ت.).
 

(2) كان لوناتشارسكي مفوضا للشعب لشؤون الثقافة. (المترجم)
 

(3) كان بارفوس اقتصاديا ماركسيا من أصل روسي قضى معظم حياته في ألمانيا. وكان يساهم في تحرير "الشرارة". وكان لينين من أشد المعجبين به ينصح الحزبيين دائما بقراءة مؤلفاته وخاصة كتابه "الاقتصاد العالمي والأزمة الزراعية". اجتمع به تروتسكي لأول مرة عام 1903 عندما كان بارفوس على رأس الجناح اليساري في الحزب الألماني. وكان اسمه آنذاك مرتبط بنظرية "الثورة الدائمة" التي يقول البعض أن تروتسكي أخذها عنه. ومما لا شك فيه أن تروتسكي تأثر ببارفوس وقد ارتبط معه بعدة مشاريع صحفية قبل ثورة 1905. خلال الحرب وضع بارفوس نفسه في خدمة الجيش الألماني وقام لحسابه بعدة صفقات تجارية في البلقان. فأعلن تروتسكي براءته منه في مقالة مؤثرة بعنوان "مرثية صديق حيّ" اعترف فيها بتأثير بارفوس على تطوره الفكري وبأنه علمه "أن يعبّر عن آراء واضحة بجمل بسيطة". وبعد انتصار ثورة أكتوبر، كتب بارفوس عارضا عليه خدماته للثورة. فلم يجبه تروتسكي على رسائله. وقد إنتهى بارفوس مستشارا لدى رئيس جمهورية "فيمار" في ألمانيا بعد الحرب. (المترجم)
 

(4) الجبهة القائمة على تحالف بوخارين وريكوف مع ستالين . (المترجم)