الفصل الثالث
العناصر الثلاثة للدكتاتورية الديموقراطية:الطبقات، المهام، التركيب الطبقي

إن الفرق بين موقف الثورة الدائمة والموقف اللينيني قد عبّر عن نفسه سياسيا في مواجهة شعار دكتاتورية البروليتاريا المستندة إلى الفلاحين بشعار دكتاتورية العمال والفلاحين الديموقراطية. لم يكن الخلاف يتعلق بما إذا كان يجب القفز عن الطور الديموقراطي البرجوازي أم ما إذا كان التحالف بين العمال والفلاحين في الثورة الديموقراطية.

يقول راديك إن "الذين لم يتعمقوا في الأداة المعقدة للماركسية واللينينية" هم وحدهم الذين يطرحون مسألة التعبير السياسي-الحزبي عن الدكتاتورية الديموقراطية، في حين يدّعي أن لينين قد لخّص المسألة كلها في تعاون الطبقتين لتنفيذ مهام تاريخية موضوعية- هذا القول يحمل من الإدعاء والطيش الشيء الكثير. لا، ليس الأمر كذلك.

إذا تغافلنا في هذه المسألة، العامل الذاتي في الثورة: الأحزاب وبرامجها –أي الشكل السياسي والتنظيمي لتعاون البروليتاريا مع الفلاحين- تذوب جميع الخلافات في الرأي ليس فقط بيني وبين لينين، هذه الخلافات التي كانت تشكل اتجاهين في جناح ثوري واحد، بل ما هو أسوأ من ذلك: تذوب الخلافات في الرأي بين البلشفية والمنشفية كذلك، وأخيرا الخلافات بين الثورة الروسية عام 1905 وثورات عام 1848 وعام 1789 إلى مدى ما نستطيع أن نتكلم عن علاقة البروليتاريا بهذه الثورة الأخيرة. لقد قامت جميع الثورات البرجوازية على تعاون الجماهير المضطَهدة في المدينة و الريف. وهذا العامل بالذات هو الذي أضفى على هذه الثورات، إلى حدٍ ما، طابعها الوطني، أي شمولها الشعب كله.

ولم يكن الخلاف النظري والسياسي بيننا يدور حول تعاون العمال والفلاحين بحد ذاته، وإنما كان يدور حول برنامج هذا التعاون وأشكاله الحزبية وأساليبه السياسية. ففي الثورات السابقة "تعاون" العمال والفلاحون تحت قيادة البرجوازية الليبرالية أو تحت قيادة جناحها البرجوازي الصغير الديموقراطي. ولقد كررت "الأممية الشيوعية" تجربة الثورات القديمة في وضع تاريخي جديد إذ بذلت كل جهدها لإخضاع العمال والفلاحين الصينيين لقيادة تشانغ كاي تشيك الوطني الليبرالي السياسية وفيما بعد لقيادة "الديموقراطي" وانغ شينغ-وي. لقد طرح لينين مسألة تحالف العمال والفلاحين التي تعارض البرجوازية الليبرالية بلا هوادة ولم يسبق أن تحقق مثل هذا التحالف في التاريخ من قبل. فكان، من حيث أسلوبه، تجربة جديدة في تعاون الجماهير المضطهَدة في المدينة وفي الريف. إذ ذاك طرحت مسألة الأشكال السياسية للتعاون مرّة أخرى. إن راديك قد تغافل هذا بكل بساطة. ولهذا السبب يقذف بنا بعيدا عن صيغة الثورة الدائمة وعن شعار لينين "الدكتاتورية الديموقراطية" إلى تجريد تاريخي فارغ.

أجل، لقد رفض لينين خلال عدة سنوات أن يعطي حكما مسبقا على كيف سيبدو التنظيم الحزبي السياسي والحكومي لدكتاتورية العمال والفلاحين الديموقراطية، وأبرز إلى المقدمة مسألة تعاون هاتين الطبقتين مقابل مسألة التحالف مع البرجوازية الليبرالية. لقد قال لينين: في طور تاريخي معيّن لا بد من أن يولّد الظرف الموضوعي بمجمله تحالفا ثوريا بين العمال والفلاحين لاضطلاع بمهام الثورة الديموقراطية. هل سيتمكن الفلاحون من خلق حزب مستقل وهل سينجحون في ذلك ؟ هل سيشكل هذا الحزب الأغلبية في حكومة الدكتاتورية أم أقلية ؟ ماذا سيكون بالتحديد وزن ممثلي البروليتاريا في الحكومة الثورية ؟ إن أيا من هذه الأسئلة لا يمكننا من الإجابة عليه بشكل مسبق. "التجربة هي البرهان !" إلى مدى ما أجابت صيغة الدكتاتورية الديموقراطية على نصف مسألة التركيب السياسي لتحالف العمال والفلاحين، فهي قد بقيت إلى حد ما معادلة رياضية جبرية تفسح المجال أمام تفسيرات سياسية جد مختلفة في المستقبل ولكن دون أن تتحول إلى تجريد راديك العقيم.

وبالإضافة لذلك، فإن لينين لم يكن من الرأي القائل بأن الأساس الطبقي للدكتاتورية وأهدافها التاريخية الموضوعية تفي المسألة حقّها. لقد كان لينين يفهم بعمق معنى العامل الذاتي، الأهداف والأداة الواعية والحزب، وكان معلمنا جميعا في هذا. لهذا السبب لم يتخل لينين مطلقا، في تعليقاته على شعاره، عن حكم تقريبي وفرضي مسبق على مسألة الأشكال السياسية التي قد يتخذها أول تحالف مستقل بين العمال والفلاحين في التاريخ. على أن الطريقة التي عالج بها لينين هذه المسألة في مناسبات مختلفة لم تكن هي نفسها دائما. لا يجب النظر إلى فكر لينين على أساس القوالب الجامدة وإنما تاريخيا. إن لينين لم يأت بوصايا جاهزة من جبل سيناء، ولكنه كان يصوغ الأفكار والشعارات لتتلاءم مع الواقع، فيجعلها محددة ودقيقة ويملأها في مناسبات متنوعة بمضمون متغيّر. غير أن راديك لم يدرس مطلقا هذه الناحية من المسألة التي اكتست فيها بعد أهمية بالغة ووضعت الحزب البلشفي عام 1917 على عتبة الانشقاق.

ومهما يكن من الأمر، يصح القول إن لينين لم يصف التعبير الحزبي السياسي الممكن والشكل الحكومي بتحالف هاتين الطبقتين بالطريقة ذاتها، وقد امتنع عن إلتزام الحزب بهذه التفسيرات الفرضية. ما هي أسباب هذا الحذر ؟ يجب البحث عن الأسباب في كون هذه المعادلة الرياضية الجبرية تحوي كما ضخما في أهميته ولكنه كان غير محدّد سياسيا هو الفلاحون.

أريد أن استشهد ببعض الأمثلة عن تفسير لينين للدكتاتورية الديموقراطية مع أيراد تحفظ هو أن عرضا شاملا لتطور فكر لينين حول هذه المسألة يتطلب كتابا مستقلا.

في معرض تطويره للفكرة القائلة بأن البروليتاريا والفلاحين هما عماد الديكتاتورية، كتب لينين في مارس عام 1905:

"إن تكوين الأساس الإجتماعي للدكتاتورية الثورية المحتملة والمطلوبة سوف ينعكس، ولا شك، في تكوين الحكومة الثورية. وبسبب وجود هذا التكوين، فإن إشراك أكثر العناصر تباينا من ممثلي الديموقراطية الثورية أو حتى طغيان هذه العناصر هو أمر محتم". (لينين: "المؤلفات الكاملة" – المجلد 6 – ص132 – الطبعة الروسية).

إن لينين، في كلماته هذه، لا يشير إلى الأسس الطبقية للدكتاتورية فحسب ولكنه يرسم صورة محددة لشكلها الحكومي أيضا، مع إيراد احتمال طغيان ممثلي العناصر الديموقراطية من البرجوازية الصغيرة.

كتب لينين عام 1907:

"لكي تنتصر الثورة الفلاحية الزراعية التي تتكلمون عنها أيها السادة يجب عليها كثورة فلاحية زراعية أن تسيطر على مركز السلطة في الدولة". (لينين: "المؤلفات الكاملة" – المجلد 9 – ص 539 – الطبعة الروسية).

ان هذه الصيغة تذهب إلى أبعد من ذلك. يمكن أن نفهم منها أنها تعني وجوب حصر السلطة الثورية بشكل مباشر بين أيدي الفلاحين. على أن هذه الصيغة في تفسيرها الأرحب الذي أدخله فيها سير التطور ذاته، تشمل أيضا ثورة أكتوبر التي جاءت بالبروليتاريا إلى الحكم بوصفها "واسطة" تحقيق الثورة الفلاحية. تلك هي رحابة التفسيرات الممكنة لصيغة دكتاتورية العمال والفلاحين الديموقراطية. وقد نسلِّم، إلى حدٍ ما، بأن جانبها المنيع يكمن في طابعها الرياضي الجبري، غير أن أخطارها تكمن هنا كذلك التي عبّرت عن نفسها بشكل جلي بعد فبراير وفي الصين حيث أدّت إلى كارثة.

كتب لينين في يوليو عام 1905:

"لا أحد يتكلم عن استيلاء الحزب على الحكم، إننا نتكلم فقط عن الاشتراك، بقدر الإمكان، في لعب دور قيادي في الثورة…" (لينين: "المؤلفات الكاملة" –المجلد 6 – ص 278 – الطبعة الروسية).

وفي ديسمبر عام 1906، اعتبر لينين أنه من الممكن الاتفاق مع كاوتسكي حول مسألة استيلاء الحزب على الحكم:

"إن كاوتسكي لا يعتبر أنه من المحتمل جدا أن يكون النصر من نصيب الحزب الاشتراكي-الديموقراطي خلال الثورة فحسب، ولكنه يعلن أيضا أنه يجب على الاشتراكيين الديموقراطيين أن يبثوا بين أنصارهم فكرة حتمية النصر لأن النضال مستحيل إذا رفض النصر مسبقا". (لينين: "المؤلفات الكاملة" – المجلد 8 – ص 58 – الطبعة الروسية).

إن المسافة التي تفصل بين هذين التفسيرين، كما يعرضها لينين نفسه، ليست أقصر من المسافة التي تفصل بين صياغتي وبين صياغة لينين. وسوف يتضح لنا ذلك فيما بعد. نريد أن نطرح السؤال التالي في هذا المضمار: ما هو معنى هذه التناقضات عند لينين ؟ إنها تعكس شيئا واحدا: "المجهول الأكبر" في الصيغة السياسية للثورة، أي الفلاحون. وليس عن عبث كان المفكرون الراديكاليون يشيرون أحيانا إلى الفلاح على أنه "أبو هول التاريخ الروسي". إن قضية طبيعة الديكتاتورية الثورية – شاء راديك أم أبى – لا يمكن فصلها مطلقا عن قضية إمكان نشوء حزب فلاحي مستقل معاد للبرجوازية الليبرالية ومستقل عن البروليتاريا. وليس من الصعب استيعاب المدلول الحاسم لهذه القضية. فإذا تمكن الفلاحون من إنشاء حزبهم المستقل في حقبة الثورة الديموقراطية، لامكن تحقيق الدكتاتورية الديموقراطية بشكل خالص ومباشر، ولكانت مسألة اشتراك الأقلية البروليتارية في الحكومة الثورية اكتسبت معنى هاما، حقا، إلاّ أنه يبقى معنى ثانويا. وتنعكس الآية إذا ما انطلقنا من أن الفلاحين، بسبب وضعهم الوسطي وتباين تكوينهم الاجتماعي، لن يكون لهم سياسة مستقلة ولا حزب مستقل؛ وانهم سوف يضطرون، في الحقبة الثورية، إلى الاختيار بين سياسة البرجوازية وسياسة البروليتاريا. إن هذا التقييم ومده لطبيعة الفلاحين السياسية يفتح أمامنا احتمال إنبثاق دكتاتورية البروليتاريا مباشرة من الثورة الديموقراطية. وفي هذا لا يوجد طبعا أي "تنكر" أو "تجاهل" أو "سوء تقدير" للفلاحين. فلا يمكن التكلم عن دكتاتورية البروليتاريا في روسيا لولا أهمية المسألة الزراعية الحاسمة بالنسبة لحياة المجتمع بأسره ولولا عمق الثورة الفلاحية السحيق واتساعها الشاسع. غير أن الرأي القائل أن الثورة الزراعية قد خلقت ظروف قيام دكتاتورية البروليتاريا إنما ينبثق عن عجز الفلاحين عن حلّ مشكلتهم التاريخية بواسطة قواهم وبقيادتهم. في ظل الظروف الحالية في البلدان البرجوازية وحتى في المتأخرة منها، إلى مدى ما تكون هذه البلدان قد دخلت في حقبة لصناعة الرأسمالية وإلى مدى ما ترتبط أطرافها بشبكة من سكك الحديد وخطوط التلغراف وهذا لا ينطبق على روسيا فحسب ولكن على الصين والهند أيضا، نجد أن الفلاحين أكثر عجزا من لعب دور قيادي عن لعب دور مستقل مما كانوا عليه إبان الثورات البرجوازية القديمة. إن كوني أؤكد على هذه الفكرة بإلحاح دوما وأبدا، هذه الفكرة التي تشكل إحدى السمات الرئيسية لنظرية الثورة الدائمة، قد وفّر أيضا مبررا لا معنى ولا أساس له، في الجوهر، لاتهامي بسوء تقدير الفلاحين.

ماذا كانت آراء لينين حول مسألة الحزب الفلاحي ؟ إن الإجابة على هذا السؤال تقتضي مراجعة وافرة لتطور آراء لينين حول الثورة الروسية خلال الفترة ما بين عام 1905 و1917. إلاّ أني سأقتصر على الاستشهاد بهذين النصين هنا.

كتب لينين عام 1907:

"من المحتمل…أن تحول الصعوبات الموضوعية لتوحيد البرجوازية الصغيرة سياسيا دون نشوء مثل هذا الحزب فتبقى الديموقراطية الفلاحية لمدة طويلة مثلما هي عليه الآن كتلة إسفنجية هلامية مائعة شبيهة بوضع الترودوفيك(1). (لينين: "المؤلفات الكاملة" – المجلد 8 – ص 494 – الطبعة الروسية).

وفي عام 1909، تحدث لينين عن الموضوع ذاته بطريقة مختلفة:

" لا شك في أن الثورة التي تبلغ… مستوى من التطور كالدكتاتورية الثورية سوف تخلق حزبا فلاحيا ثوريا أكثر رسوخا وقوة. إن إطلاق حكم على هذا الموضوع غير هذا الحكم يعني الافتراض أن حجم بعض الأعضاء الأساسية في الإنسان البالغ وشكلها ومدى تطوّرها يمكن أن تبقى في وضع طفولي. (لينين: "المؤلفات الكاملة" –المجلد 11 الجزء الأول - ص 230- الطبعة الروسية).

هل أثبت هذا الافتراض ؟ كلا، إنه لم يثبت. وهذا هو بالذات الأمر الذي دفع لينين إلى أن يعطي جوابا على شكل معادلة جبرية على مسألة الحكومة الثورة إلى حين إثبات التاريخ لصحتها إثباتا لا يقبل الجدل. إن لينين لم يضع، بالطبع، صيغته الفرضية فوق الواقع. كان النضال من أجل حزب سياسي مستقل للبروليتاريا هو هدف حياته. أما رجال الصف الثاني البائسون فقد انتهوا، في سعيهم وراء الحزب الفلاحي، إلى إخضاع العمال الصينيين للكيومنتانغ، وإلى خنق الشيوعية في الهند باسم "حزب العمال والفلاحين"، وإلى الوهم الخطير الذي يسمى "الأممية الفلاحية"، وإلى مهزلة "عصبة النضال ضد الاستعمار" وما شابه ذلك.

إن الفكر الرسمي السائد لا يبذل أي مجهود للتوقف عند التناقضات في فكر لينين التي بيّناها أعلاه خارجية وظاهرية كانت أم حقيقية غير أنها تنبثق من المشكلة ذاتها. والآن وقد برزت بيننا فصيلة خاصة من الأساتذة "الحمر"، الذين غالبا ما يتميزون عن الأساتدة الرجعيين القدماء ليس بكونهم أكثر صلابة منهم ولكن بكونهم أكثر جهلا، يجري تشذيب لينين بأسلوب أكاديمي وتحريره من جميع التناقضات أي من حيوية فكره؛ فينشرون عيّنات من النصوص على حبال منفصلة ثم ينزلون "سلسلة" منها أو أخرى إلى السوق وفق مقتضيات "اللحظة الراهنة".

ولا يجب أن يغيب عن البال لحظة واحدة أن مشكلات الثورة في بلد "بكر" سياسيا غدت عويصة بعد وقفة تاريخية طويلة، بعد حقبة رجعية مديدة في أوروبا والعالم أجمع، فاحتوت لهذا السبب وحده على عدد كبير من المجهولات. ولقد عبّر لينين من خلال صيغة دكتاتورية العمال والفلاحين الديموقراطية عن خصوصية الظروف الإجتماعية الروسية. وفسّر هذه الصيغة بأشكال مختلفة، إلاّ أنه لم يرفضها الاّ بعد أن غاص إلى أعماق الظروف الخاصة بالثورة الروسية. فأين تكمن هذه الخصوصية ؟

إن الدور الكبير الذي تلعبه المسألة الزراعية خاصة والمسألة الزراعية عامة كركيزة أساسية أو ثانوية لجميع المشكلات الأخرى؛ والعدد الكبير من الفلاحين المثقفين ومن الذين يؤيدون الفلاحين، بأيديولوجيتهم النارودنية، وبتقاليدهم "المعادية للرأسمالية" وبمزاجهم الثوري؛ إن هذا بمجمله يعني أنه لو كان بالإمكان أن ينشأ حزب فلاحي ثوري معاد للبرجوازية لتم ذلك في روسيا أولا وبشكل خاص.

وفي الواقع، خلال المساعي لخلق حزب فلاحي، أو حزب عمالي فلاحي، يتميز عن الحزبين الليبرالي والبروليتاري معا، جرى إختيار كل الأشكال السياسية في روسيا على اختلاف أنواعها إن سرية أو برلمانية أو مزيجا من الاثنين: "زمليا أي فوليا" (الأرض والحرية)، "نارودنايا فوليا" (إرادة الشعب)، "تشيرني بيريديل" (إعادة التوزيع الأسود)، "النارودنيشستوفا" المرخّص (الشعبيون)، "الاشتراكيون-الثوريون"، "الاشتراكيون الشعبيون"، "الترودوفيك"، "اليسار الاشتراكي-الثوري"، إلى آخره، إلى آخره. وبدا خلال نصف قرن، وكأن في روسيا مختبرا ضخما لخلق حزب فلاحي "معاد للرأسمالية" يقف موقفا مستقلا من الحزب البروليتاري. وكما هو معلوم كان أبعد ما تم الوصول إليه في هذا المضمار هو تجربة "الحزب الاشتراكي-الثوري" الذي كان يشكل، لفترة خلال عام 1917، الحزب الذي يمثل فعليا غالبية الفلاحين الساحقة. ولكن ماذا جرى بعد ذلك ؟ لقد استغل هذا الحزب وضعه ليخون الفلاحين كليا لحساب البرجوازية الليبرالية. فدخل الاشتراكيون-الثوريون في تحالف مع استعماريي "الانثانت" وخاضوا معهم حريا مسلحة ضد البروليتاريا الروسية.

إن هذه التجربة التقليدية تؤكد أن الأحزاب البرجوازية الصغيرة التي تعتمد على الفلاحين ما زال بمقدورها الإبقاء على ما يشابه السياسة المستقلة خلال الفترات الخامدة من التاريخ عندما تطفو القضايا الثانوية إلى السطح؛ ولكن عندما تضع أزمة المجتمع الثورية قضايا الملكية على المحك، يتحول حزب "الفلاحين" البرجوازي الصغير رأسا إلى أداة طيعة في يد البرجوازية موجهة ضد البروليتاريا.

إذا جرى تحليل خلافاتي القديمة في الرأي مع لينين على أساس بعدها التاريخي الصحيح وليس على صعيد النصوص التي تجتزأ من هذه السنة أو تلك ومن هذا الشهر أو ذلك اليوم، يتضح إذ ذاك أن الخلاف لم يكن قائما، من طرفي على الأقل، حول ما إذا كان تحالف البروليتاريا مع الفلاحين ضروريا لإنجاز المهام الديموقراطية؛ وإنما كان يدور حول الشكل الحزبي-السياسي والحكومي الذي سيكتسيه التعاون الثوري بين البروليتاريا والفلاحين وحول النتائج التي تنتج عنه في تطور الثورة اللاحق. إني أتكلم طبعا عن موقفي في هذا الخلاف وليس عن موقف بوخارين أو راديك آنذاك هذا الموقف الذي تقع عليهما مهمة الدفاع عنه.

إن المقارنة التالية توّضح بدقة إلى أي مدى كانت صيغة "الثورة الدائمة" قريبة من صيغة لينين. في صيف عام 1905، أي قبل إضراب ديسمبر العام وقبل انتفاضة ديسمبر في موسكو، كتبت في مقدمة لإحدى خطب "لاسال" ما يلي:

"من البديهي أن تؤدي البروليتاريا رسالتها مدعمة من الفلاحين ومن البرجوازية الصغيرة في المدن كما فعلت البرجوازية إبان ثورتها. البروليتاريا تقود الريف، وتجذبه إلى الحركة، وتثير اهتمامه في نجاح مخططاتها. إلاّ أنه لا بد للبروليتاريا من أن تظل هي القائدة. هذه ليست دكتاتورية العمال والفلاحين الديموقراطية، بل دكتاتورية البروليتاريا المدعومة من الفلاحين."(2) (تروتسكي: "العام 1905" – ص281 – الطبعة الروسية).

والآن فلنقارن هذه الكلمات التي كتبت عام 1905 والتي استشهدت بها في مقالي البولوني عام 1909 بالكلمات التي ستلي للينين التي كتبت هي أيضا عام 1909 مباشرة بعد أن تبنى مؤتمر الحزب، تحت ضغط من روزا لوكسمبورغ، صيغة "دكتاتورية البروليتاريا المدعومة من الفلاحين" عوضا عن الصيغة البلشفية القديمة. لقد ردّ لينين على المنشفيك الذين تكلموا عن وجود تغير جذري في موقفه، قائلا:

"…إن الصيغة التي اختارها البلاشفة هنا تقول: البروليتاريا التي تقود الفلاحين وراءها."(3)
"أليس من البديهي أن الفكرة التي تتخلل جميع هذه الصياغات هي واحدة ؟ أليس من البديهي أن هذه الفكرة تعبر بدقة عن ديكتاتورية العمال والفلاحين، وأن صيغة البروليتاريا المدعومة من الفلاحين تبقى كليا في نطاق دكتاتورية العمال والفلاحين بالذات ؟" (لينين: "المؤلفات الكاملة" – المجلد 1 – ص 219 و224).

هنا نجد أن لينين قد أضاف شيئا إلى معادلته "الجبرية" التي تستبعد فكرة نشوء حزب فلاحي مستقل وحتى إمكانية لعبه لدور أساسي في الحكومة الثورية: البروليتاريا تقود الفلاحين، الفلاحون يدعمون البروليتاريا، وبالتالي فالسلطة الثورية محصورة في يد حزب البروليتاريا. ولكن هذه هي بالتحديد النقطة الرئيسية لنظرية الثورة الدائمة.

أمّا الآن، أي بعد أن جرى الامتحان التاريخي، فكل ما نستطيع قوله عن الخلافات القديمة في الرأي حول مسألة الدكتاتورية هو ما يلي:

في حين كان لينين، الذي ينطلق من دور البروليتاريا القيادي، يؤكد ويطور بكل الطرق ضرورة تعاون العمال الثوري والديموقراطي مع الفلاحين –وكان بذلك معلمنا جميعا- كنت بدوري أنطلق دوما وأبدا من هذا التعاون مؤكدا بكل الطرق ضرورة القيادة البروليتارية ليس في الجبهة فحسب ولكن في الحكومة التي سترأس هذه الجبهة أيضا. وليس من خلافات أخرى في الموضوع.

فلنأخذ نصين في هذا الصدد: نص من مقالة "نتائج وتوقعات" يستعمله ستالين وزينوفييف لإثبات تناقض آرائي مع آراء لينين، ونص آخر من مقالة سجالية للينين ضدي يستعمله راديك للغرض نفسه.

ها هو النص الأول:

"إن اشتراك البروليتاريا في الحكومة هو أمر محتمل جدا من الناحية الموضوعية، وجائز من الناحية المبدئية فقط عندما يكون إشتراكيا قياديا طاغيا. ويمكن بالطبع أن نطلق على مثل هذه الحكومة اسم دكتاتورية العمال والفلاحين، أو دكتاتورية البروليتاريا والفلاحين والانتليجنسيا، أو حتى حكومة التحالف الطبقية العاملة والبرجوازية الصغيرة، ولكن يبقى السؤال التالي معلقا: "من سيهيمن على الحكومة نفسها ومن خلالها على البلد ؟ ونحن، إذ نتكلم عن حكومة عمالية، إنما نجيب على السؤال بالقول أن الطبقة العاملة هي التي يجب أن تهيمن." (ليون تروتسكي: "ثورتنا" – 1907 – ص250 – الطبعة الروسية)

لقد أثار زينوفييف (عام 1925 !) ضجة كبيرة لأني وضعت (عام 1905 !) الفلاحين والانتلجنسيا على مستوى واحد. هذا كما فهمه من الأسطر المذكورة أعلاه. كانت الإشارة إلى الانتلجنسيا ناجمة عن ظروف تلك الحقبة حيث كانت الانتلجنسيا تلعب دورا مختلفا جدا عن الدور الذي تلعبه اليوم. فقد كانت منظمات المثقفين هي التي تحتكر الكلام باسم الفلاحين في ذلك الحين؛ فقد بنى الاشتراكيون-الثوريون حزبهم رسميا على هذا "الثالوث": البروليتاريا، الفلاحون، الانتلجنسيا؛ وكان المنشفيك، على حد تعبيري في ذلك الحين، يتمسّكون بكل مثقف راديكالي لكي يثبتوا أن الديموقراطية البرجوازية ما تزال يانعة. ولقد كتبت مئات المرات من ذلك الحين عن عقم المثقفين كفئة اجتماعية "مستقلة" وعن المغزى الحاسم للفلاحين الثوريين.

ومهما يكن، لسنا بالتأكيد في معرض مناقشة جملة سجالية واحدة لست مستعدا للدفاع عنها مطلقا. إن جوهر النص هو التالي: إني أقبل المحتوى الذي يعطيه لينين للديكتاتورية الديموقراطية قبولا كليا، وإني أطالب فقط بتحديد أدق لتركيبه السياسي، أي باستبعاد ذلك النوع من التحالف الذي تكون فيه البروليتاريا أسيرة أغلبية برجوازية صغيرة.

والآن، فلنلتفت إلى مقالة لينين عام 1916 التي كانت، على حد تعبير راديك نفسه، موجهة "رسميا ضد تروتسكي ولكنها موجهة في الواقع ضد بوخارين وبياتاكوف وكاتب هذه السطور (أي راديك) وعدد آخر من الرفاق." إن هذا الاعتراف ثمين يؤكد انطباعي في ذلك الحين أن لينين يوجه مساجلته ضدي في الظاهر فقط، لأن مضمون المساجلة في الواقع لا علاقة بي، الأمر الذي سأبيّنه فيما يلي. إن هذه المقالة تحتوي (في سطرين أثنين) على الاتهام ذاته المتعلق "بإنكاري للفلاحين" المزعوم الذي أصبح فيما بعد رأس المال الأساسي في يد رجال الصف الثاني وأتباعهم. إن "بيت القصيد" في هذه المقالة على حد تعبير راديك، يكمن في المقطع التالي إذ يقول لينين مستشهدا بكلامي:

"إن تروتسكي لم يأخذ بعين الاعتبار أنه إذا قادت البروليتاريا وراءها الجماهير غير البروليتارية في الريف لمصادرة ممتلكات أصحاب الأراضي والإطاحة بالملكية فهذا يعني إنتهاء الثورة البرجوازية الوطنية، يكون موازيا في روسيا لدكتاتورية العمال والفلاحين الديموقراطية الثورية." (لينين: "المؤلفات الكاملة" – المجلد 13 – ص 214 – الطبعة الروسية)

إن لينين لم يوجّه تأنيبه حول "إنكاري" الفلاحين إلى "العنوان الصحيح" فقد كان يتوجه، في الواقع، إلى بوخارين وراديك اللذين لا يتضح قفزهما عن الطور الديموقراطي من الثورة من كل ما قيل أعلاه فحسب، وإنما يتضح أيضا من المقطع الذي يستشهد به راديك نفسه والذي يسميه عن حق "بيت القصيد" في مقالة لينين. وفي الواقع، يستشهد لينين بكلمات مقالتي رأسا التي تقول بأن انتهاج البروليتاريا لسياسة مستقلة صلبة هو العامل الذي "يجرّ ورائها الجماهير غير البروليتارية في الريف لمصادرة ممتلكات أصحاب الأراضي وللإطاحة بالملكية" إلى آخره؛ ثم يستطرد لينين قائلا: "إن تروتسكي لم يأخذ بعين الاعتبار… إن هذا يكون موازيا في روسيا لدكتاتورية العمال والفلاحين الديموقراطية الثورية". وبكلمات أخرى، إن لينين يؤكد هنا ويستشهد أن تروتسكي يقبل، في الواقع، كل المضمون العقلي للصيغة البلشفية (تعاون العمال مع الفلاحين ومهام هذا التعاون الديموقراطية)، غير أنه يرفض أن يعترف أن هذا هو بالذات انتهاء الثورة الوطنية وهذا هو بالذات قيام الديكتاتورية الديموقراطية. لذا، ينتج عن ذلك أن الخلاف في هذه المقالة السجالية "العنيفة" ظاهريا لا يتعلق ببرنامج الطور القادم من الثورة وقواه الطبقية الدافعة، وإنما يتعلق بالتأكيد بالعلاقة المتبادلة بين هذه القوى وبالطابع السياسي والحزبي للدكتاتورية. وكنتيجة لغموض العمليات نفسها في ذلك الحين من جهة، ونتيجة للمبالغات الناجمة عن صراع الأجنحة كانت إساءة الفهم السجالية مفهومة وحتمية في تلك الأيام؛ أما ما لا يمكن فهمه هو أن راديك يسعى لإدخال هذه الفوضى في المسألة بعد وقوع الحدث.

كانت مساجلتي مع لينين تدور، في جوهرها، حول إمكانية استقلال الفلاحين في الثورة (وحول درجة هذا الاستقلال) وبخاصة حول إمكانية نشوء حزب فلاحي مستقل. في تلك المساجلة اتهمت لينين بالمبالغة في تقدير دور الفلاحين المستقل. واتهمني لينين بإساءة تقدير دور الفلاحين الثوري. وكان هذا ينبثق من طبيعة المساجلة نفسها. ولكن أليس كريها أن يستعمل المرء هذه النصوص الآن، بعد مضي عقدين من الزمن، عازلا اياها عن مضمون العلاقات الحزبية في ذلك الحين ومضفيا على كل مبالغة سجالية أو خطأ آني معنى مطلقا، عوضا عن أن يعرّي في ضوء التجربة الثورية العظيمة التي اخترناها طبيعة المحور الأساسي للخلافات وبُعدها الحقيقي وليس بُعدها اللفظي.

لكوني مجبرا على أن أحدّ من اختياري للنصوص، سوف أشير فقط إلى أطروحات لينين الرئيسية التي كتبت في نهاية عام 1905 ولم تنشر لأول مرّة إلاّ عام 1926 في المجلد الخامس من "متفرقات لينين" (ص451). وأني أذكر أن جميع المعارضين، بما فيهم راديك، اعتبروا أن نشر هذه الأطروحات هو أثمن هدية تقدّم للمعارضة، لأنه تبيّن انه لو أردنا تطبيق مواد القانون الستاليني على هذه الأطروحات لتبيّن ان لينين متهم "بالتروتسكية". فبدت أهم النقاط التي وردت في مقررات المؤتمر السابع "للجنة المركزية للأممية الشيوعية" التي تدين التروتسكية وكأنها موجهة بصراحة وعن قصد ضد أطروحات لينين الأساسية. فأزبد الستالينيون غيظا. وقد قال لي كامنييف الذي تولّى نشر "المتفرقات" صراحة بتلك "الطيبة" الصلفة التي يتميز بها، قال لولا أنه لم يكن يمهد لقيام جبهة بيننا لما كان سمح، في أي حال من الأحوال، بنشر هذه الوثيقة. وأخيرا عمد "كوستريزيوا" في مقالة له في مجلة "البلشفي" إلى تزوير هذه الأطروحات لغرض واحد هو إعفاء لينين من أن توجه إليه تهمة التروتسكية في موقفه من الفلاحين عامة ومن الفلاح المتوسط خاصة.

وبالإضافة لذلك، سأستشهد هنا بتقييم لينين نفسه لخلافه في الرأي معي كما تحدث عنه عام 1909:

"إن الرفيق تروتسكي نفسه يسلّم، في هذا المضمار "باشتراك ممثلي القطاع الديموقراطي من الشعب" في "الحكومة العمالية" أي أنه يسلّم بحكومة تضم ممثلين من البروليتاريا والفلاحين.
أما حول السؤال: في أية ظروف يسمح بها اشتراك البروليتاريا في الحكومة الثورية ؟ فذلك موضوع آخر؛ والأرجح أن البلاشفة لن تكون لهم وجهة نظر مشتركة، في هذا الصدد، ليس مع تروتسكي فحسب بل مع الاشتراكيين-الديموقراطيين البولونيين أيضا. إلاّ أنه يمكن تحويل مسألة دكتاتورية الطبقات الثورية، بأي حال من الأحوال، إلى مجرد مسألة "الأغلبية" في هذه الحكومة أو تلك، أو إلى ماهية الظروف التي يسمح بها اشتراك الاشتراكيين-الديموقراطيين في هذه الحكومة أو تلك". (لينين: "المؤلفات الكاملة" – المجلد 1 – ص 229 – الطبعة الروسية).

إن لينين يؤكد مرّة أخرى في هذا النص أن تروتسكي يقبل بحكومة تضم ممثلين عن البروليتاريا والفلاحين فهو إذن لا "يقفز" عن هذه الأخيرة. علاوة على ذلك، فقد أكّد لينين أنه لا يمكن تحويل مسألة الدكتاتورية إلى مجرد مسألة الأغلبية في الحكومة. إن هذا بمجمله لا جدال حوله. إن الموضوع يتعلق أولا وآخرا بنضال البروليتاريا والفلاحين المشترك، وبالتالي نضال الطليعة البروليتارية، ضد البرجوازية الليبرالية الوطنية للتأثير على الفلاحين. غير أنه لا يمكن تحويل مسألة دكتاتورية العمال والفلاحين الثورة إلى مسألة هذه الأغلبية أو تلك في الحكومة، على أنه لابد من أن تبرز هذه المسألة كمسألة حاسمة بعد انتصار الثورة. وكما رأينا، فإن لينين يتحفظ بحذر (تجاه جميع الاحتمالات) فيؤكد أنه لو وصلت الأمور إلى درجة اشتراك الحزب في الحكومة الثورية لربّما برزت خلافات مع تروتسكي ومع الرفاق البولونيين حول ظروف هذا الاشتراك. إذن كان الموضوع هو موضوع احتمال نشوء اختلاف في الرأي إلى مدى ما كان لينين يعتبر أنه من الجائز نظريا أن يشترك ممثلون عن البروليتاريا كأقلية في حكومة ديموقراطية. غير أن الأحداث برهنت أنه لم تنشأ خلافات فيما بيننا. ففي أكتوبر 1917، نشب صراع عنيف في القيادة العليا للحزب حول مسألة الحكومة الائتلافية مع الاشتراكيين-الثوريين والمنشفيك. وبدون أن يعترض لينين مبدئيا على التحالف على صعيد مجالس السوفييت، طلب بوضوح تام المحافظة على الأغلبية البلشفية. وكنت إلى جانب لينين في ذلك الموقف.

والآن، فلنسمع راديك. إلى ماذا يحوّل كل مسألة دكتاتورية العمال والفلاحين الديموقراطية ؟

إنه يتساءل: "أين أثبتت نظرية البلاشفة عام 1905 عن صحتها في الأساس ؟ في كون النضال المشترك لعمال بتروغراد وفلاحيها (جنود حامية بتروغراد) هو الذي أطاح بالحكم القيصري [عام 1917 – ل. ت.]. وعلى كل، فإن صيغة 1905 قد تكهنت في أساسها بالعلاقة بين الطبقات فقط ولكنها لم تتكهن بمؤسسات سياسية محدّدة".

لحظة واحدة من فضلك ! عندما وصفت الصيغة اللينينية القديمة بأنها معادلة "جبرية" لم أكن أعني أنه يجوز تحويلها إلى ابتذال فارغ كما يفعل راديك بطيش. تحقق الشيء الأساسي: لقد اشترك العمال والفلاحون في "الإطاحة بالقيصرية". غير أن هذا "الشيء الأساسي" قد تحقق، بدون استثناء، في جميع الثورات الناجحة أو التي نجحت جزئيا. لقد كانت الضربات التي وجهت إلى القيصرية والإقطاعية والكهنة دوما مصدرها قبضات البروليتاريين وأسلافهم المعدمون والفلاحون. ويعود ذلك إلى القرن السادس عشر في ألمانيا وحتى إلى ما قبل ذلك. وفي الصين كان العمال والفلاحون هم الذين وجهوا الضربات إلى "العسكريين". فما علاقة هذا بالدكتاتورية الديموقراطية ؟ إن الثورة. الصينية أو الثورات القديمة لم تعرف مثل هذه الدكتاتورية. لم لا ؟ لأن البرجوازية كانت تركب على ظهور العمال والفلاحين الذين اضطلعوا بالمهام الصعبة في الثورة. إن راديك قد انفصل بعنف عن "المؤسسات السياسية" بحيث نسي "أهم شيء" في الثورة، أي من يقودها ومن يستولي على الحكم. ومهما يكن من أمر، فالثورة نضال من أجل استلام الحكم. إنها صراع سياسي تخوضه الطبقات ليس بأيديها العارية وإنما تخوضه بواسطة "مؤسسات سياسية" (كالأحزاب وما شابه).

ويكرر راديك وعيده ضدنا نحن الكفرة: "إن الذين لم يتعمقوا في فهم تعقيدات الأداة الماركسية-اللينينية" يحملون المفهوم التالي: "يجب أن يؤدي كل شيء في النهاية إلى حكومة مشتركة من العمال والفلاحين؛ ويذهب البعض إلى حد الاعتقاد أنه لا بدّ لذلك من أن يكون في حكومة ائتلافية تضم الأحزاب العمالية والفلاحية".

يا لهم من متحجري الرؤوس هؤلاء "البعض" ! ما رأي راديك ؟ هل يعتقد أنه ليس من الضروري أن تنعكس الثورة المنتصرة على العلاقة المحددة بين الطبقات الثورية، وأن تترك طابعها عليها ؟ لقد عمّق راديك المشكلة "السوسيولوجية" إلى درجة أنه لم يتبقّ منها سوى قشرة لفظية.

يتبين لنا إلى أي مدى لا يجوز أن ينفصل المرء عن مسألة الأشكال السياسية لتعاون العمال والفلاحين عندما نقرأ الكلمات التالية من خطاب لراديك نفسه، في "الأكاديمية الشيوعية" في مارس من عام 1927:

"منذ سنة، كتبت مقالة في "البرافدا" حول هذه الحكومة [حكومة كانتون] وقلت أنها حكومة الفلاحين والعمال. وقد اعتبر أحد الرفاق في هيئة التحرير أن تلك هفوة من جانبي، فحوّل المجلة إلى حكومة العمال والفلاحين. إني لم أعترض على هذا وتركتها كما هي حكومة العمال والفلاحين"

وهكذا، كان راديك في مارس من عام 1927 (وليس في عام 1905) من الرأي القائل أنه بالإمكان قيام حكومة الفلاحين والعمال عوضا عن حكومة العمال والفلاحين. كان ذلك فوق مستوى تفكير محرّر "البرافدا".و أني أقسم بحياتي أني لم أفهمه أيضا. إننا نعرف تمام المعرفة ما معنى حكومة العمال والفلاحين. ولكن ما هي حكومة الفلاحين والعمل التي هي بديل لحكومة العمال والفلاحين ومعاكسة لها ؟ المرجو أن تفسّروا لنا لغز تبديل النعوت هذا. هنا نضع أصبعنا على جوهر المسألة. في عام 1926 اعتبر راديك أن حكومة كانتون التي أقامها تشانغ كاي-تشيك هي حكومة الفلاحين والعمال. وفي عام 1927 كرّر هذه الصيغة. وقد تبين، في الواقع، أنها حكومة برجوازية تستغل النضال الثوري للعمال والفلاحين ثم تغرقهم في بركة من الدم. كيف تفسر هذه الفعلة الشنيعة ؟ هل أن راديك قد أخطأ الحكم فقط ؟ من السهل أن يخطئ المرء الحكم إذا كان بعيدا عن الحدث. لماذا لم يقل راديك إذن: إني لم أفهم، أني لم أرَ، لقد أخطأت. لا ليس هذا خطأ ناجما عن قلة المعلومات، بل هو كما يتضح الآن خطأ فادح في المبدأ. إن حكومة الفلاحين والعمال التي تعاكس حكومة العمال والفلاحين ليست سوى الكيومنتانغ. ولا يمكن أن تكون أي شيء آخر. إن الفلاحين إما أن يتبعوا البروليتاريا وإما أن يتبعوا البرجوازية. وأظن إن هذه المسألة قد اتضحت بما فيه الكفاية في معرض نقدي لفكرة ستالين الانشقاقية حول: "حزب الطبقتين، طبقة العمال وطبقة الفلاحين". (راجع:" نقد الخطوط الرئيسية لمشروع برنامج الأممية الشيوعية")، إن "حكومة الفلاحين والعمال" في كانتون مقابل حكومة العمال والفلاحين هي أيضا التعبير الوحيد الذي يمكن أن نتبيّنه، في لغة السياسة الصينية الحالية، عن "الديكتاتورية الديموقراطية" التي تعاكس دكتاتورية البروليتاريا؛ أنها بكلمات أخرى، تجسيد لسياسة الكيومنتانغ الستالينية التي تعاكس السياسة البلشفية التي تنعتها "الأممية الشيوعية" بانها سياسة "تروتسكية".


(1) الترودوفيك هم ممثلو الفلاحين في مجلس الدوما الأربعة، وكانوا يتقلبون دائما بين الكاديت (الليبراليون) وبين الاشتراكيين-الديموقراطيين. (ل.ت.)
 

(2) إن هذا المقطع، إلى جانب المئات من أمثاله، يؤكد بشكل عابر أني كنت أعلم بوجود الفلاحين بأهمية المسألة الزراعية منذ عشية ثورة عام 1905، أي قبل أن يفسر لي أهمية الفلاحين أناس أمثال ماسلوف، وثالهايمر، وثالمان، وريميل، وكاتشين، ومونموسو، وبيلاكون، وبيبز، وكيوسينين وعلماء الاجتماع الماركسيون الآخرون، بمدة طويلة. (ل. ت.)
 

(3) في مؤتمر عام 1909 اقترح لينين صيغة "البروليتارا التي تقود الفلاحين وراءها" غير أنه أيد في النهاية صيغة الاشتراكيين-الديموقراطيين البولونيين التي حظيت بغالبية الأصوات في المؤتمر ضد المنشفيك. (ل.ت.)