ننتقل الآن إلى اكتشاف آخر لمورغان يتسم على الأقل بنفس القدر من الأهمية الذي يتسم به بعث الشكل البدائي للعائلة على أساس أنظمة القرابة. فقد أثبت مورغان أن جماعات الأقرباء بالدم، المسماة بأسماء الحيوانات، في داخل قبيلة من الهنود الحمر الأميركيين، مماثلة من حيث الجوهر لـ genea اليونانيين ولـ gentes الرومانيين، وأن الشكل الأميركي هو الشكل الأولي، وأن الشكل اليوناني الروماني هو الشكل اللاحق، المشتق، وأن لتنظيم اليونانيين والرومانيين الاجتماعي كله في الأزمنة البدائية في عشيرة و”فراترية” phratria وقبيلة، مقابلاً دقيقاً في تنظيم الهنود الحمر الأميركيين، وأن العشيرة هي (بقدر ما تسمح لنا مصادرنا الحالية بالحكم عليها) مؤسسة مشتركة بين جميع الشعوب حتى دخولها في عهد الحضارة بله في مرحلة لاحقة.إن هذا البرهان قد أوضح على الفور أصعب أقسام التاريخ اليوناني والروماني وأعطانا في الوقت نفسه تفسيراً غير متوقع للسمات الأساسية للنظام الاجتماعي في الأزمنة البدائية، قبل نشوء الدولة. ومهما بدا هذا لاكتشاف بسيطاً بعد الاطلاع عليه ومعرفته، فإن مورغان لم يكتشفه مع ذلك إلا في الآونة الأخيرة، ففي كتابه السابق الذي صدر في عام 1871 (80) ، لم يكن قد تسرب بعد إلى هذا السر الذي أجبر اكتشافه مذ ذاك الخبراء الإنجليز في التاريخ البدائي، الواثقين عادة فائق الثقة بأنفسهم، على لزوم الصمت فترة من الوقت.
إن الكلمة اللاتينية gens (“جنس”) التي يستعملها مورغان في كل مكان ليعني بها هذه الجماعة العشيرية، تنحدر مثلها مثل الكلمة اليونانية المناسبة genos، من الأصل الآري الواحد gan (بالألمانية kan، إذ أن الحرف الآري g يتحول حسب القاعدة العامة في الألمانية إلى k) الذي يعني “ولد”، “نسل”. إن gens، genos، وdschanas السنسكريتية وkuni الغوطية (بموجب القاعدة المذكورة آنفاً)، وkyn السكاندينافية القديمة والأنجلو سكسونية، وkin الإنجليزية، وkünne بالألمانية- العليا الوسطى، تعني جميعها “نسب”،”أصل”. ولكن gens اللاتينية وgenos اليونانية تستعملان خصيصاً لتسمية جماعة عشيرية تعتز بأصلها المشترك (و هنا، من جد واحد مشترك) وتشكل بحكم مؤسسات اجتماعية ودينية معينة، جماعة خاصة متميزة لا يزال أصلها وطبيعتها مع ذلك غير واضحين حتى الآن بالنسبة لجميع مؤرخينا.
و قد سبق ورأينا، عند دراسة العائلة البونالوانية، تركيب العشيرة بشكلها الأولي، البدائي، فهي تتألف من جميع الأشخاص الذين يشكلون، عن طرق الزواج البونالواني وبموجب التصورات السائدة حتماً في ظل هذا الزواج، الذرية المعترف بها لجدة واحدة معينة، هي مؤسسة العشيرة. وبما أنه لا تمكن في ظل هذا الشكل للعائلة معرفة الأب بدقة وثبوت، فلا يؤخذ بالحسبان إلا خط المرأة، حبل النسل النسائي. وبما أنه لا يحق للأخوة أن يتزوجوا أخواتهم، وبما أنه لا يحق لهم أن يتزوجوا إلا من نساء من أصل آخر، من خط آخر، فإن الأولاد الذين تلدهم هؤلاء النساء الغريبات عنهم يكونون، بحكم الحق الأمي، خارج العشيرة المعنية. ولذا لا يبقى داخل الجماعة العشيرية غير أخلاف بنات كل جيل، أما أخلاف الأبناء فإنهم ينتقلون إلى عشائر أمهاتهم. وماذا يحدث لهذه الجماعة من أقرباء الدم بعد أن تتشكل في جماعة خاصة، متميزة، بالنسبة للجماعات المماثلة الأخرى في داخل القبيلة.؟
و يأخذ مورغان العشيرة عند الإيروكوا، وعلى الأخص عند قبيلة “سينيكا” كشكل كلاسيكي لهذه العشيرة البدائية. ففي هذه القبيلة توجد ثماني عشائر مسماة بأسماء حيوانات: 1- الذئب، 2- الدب، 3- السلحفاة، 4- القندس، 5- الأيل، 6- دجاجة الأرض، 7- مالك الحزين، 8- الصقر.
و لكل عشيرة العادات التالية:
1.تنتخب العشيرة “ساخماً” sachem (شيخاً في زمن السلم) وزعيماً (قائداً عسكرياً). وكان ينبغي انتخاب “الساخم” من قوام العشيرة بالذات، وكانت وظيفته تنتقل بالوراثة داخل العشيرة، لأنه كان ينبغي، في حال فراغها، إملاؤها من جديد على الفور. وكان يمكن انتخاب القائد العسكري من غير أعضاء العشيرة أيضاً، وكان يمكن أحياناً الاستغناء عنه تماماً. وكان ابن “الساخم”السابق لا ينتخب أبداً “ساخما”، لأن الحق الأمي كان السائد عند الإيروكوا، ولأن الابن كان بالتالي ينتسب إلى عشيرة أخرى، ولكن أخ “الساخم” السابق أو ابن أخته هو الذي كان ينتخب في أحيان كثيرة. وكان الجميع، رجالاً ونساء، يشتركون في الانتخابات. ولكن الاختيار كان يخضع لمصادقة العشائر السبع الأخرى، وبعد هذا فقط كان المختار ينصّب باحتفال في وظيفته من قبل المجلس المشترك لاتحاد الإيروكوا العام. وفيما يلي من البحث، ستتضح أهمية هذا الواقع. فقد كانت سلطة “الساخم” داخل العشيرة سلطة أبوية، ذات طابع معنوي صرف، ولم تكن لديه أي وسائل للإكراه. وفضلاً عن ذلك كان بحكم وظيفته عضواً في مجلس قبيلة “سينيكا” وعضواً في المجلس المشترك لاتحاد الإيروكوا العام. ولم يكن بوسع الزعيم العسكري أن يصدر الأوامر إلا في زمن الحملات الحربية.
2.تقيل العشيرة بملء إرادتها “الساخم” والزعيم العسكري. وهذا الأمر أيضاً يقرره الرجال والنساء معاً. وبعد الإقالة، يصبح المقالون محاربين عاديين، أفراداً عاديين، مثلهم مثل الآخرين. ومن جهة أخرى، يستطيع مجلس القبيلة أيضاً أن يقيل “الساخم” حتى رغم إرادة العشيرة.
3.لا يحق لأي من أعضاء العشيرة أن يتزوج في داخل العشيرة. وهذه هي القاعدة الأساسية في العشيرة، والعروة التي تشد لحمتها، وهي تعبير سلبي عن تلك القرابة بالدم المحددة تماماً والتي هي وحدها تجعل من الأفراد الذين تشملهم عشيرة. وباكتشاف هذا الواقع البسيط، اكتشف مورغان للمرة الأولى جوهر العشيرة. أما ما أقل ما كانوا يفهمون قبل ذاك هذا الجوهر، فتبينه القصص السابقة عن المتوحشين والبرابرة حيث المجموعات التي تشكل عناصر العشيرة تختلط بدون تفهمن وتمييز تحت أسماء: قبيلة و”كلان” و”توم” thum، الخ.، وحيث يقال أحياناً كثيرة أن الزواج ممنوع داخل هذه أو تلك من هذه المجموعات. وهذا ما خلق ذلك التشوش المستعصي الذي استطاع السيد ماك-لينان أن يقوم فيه بدور نابليون لكي يبسط النظام بحكم مبرم: جميع القبائل تنقسم إلى قبائل الزواج ممنوع في داخلها (القبائل الخارجية الزواج) وإلى قبائل الزواج مسموح في داخلها (القبائل الداخلية الزواج). وبعد تشويش المسألة على هذا النحو انصرف إلى أبحاث في منتهى العمق ليعرف أياً من هاتين المقولتين السخيفتين أقدم عهداً، مقولة الزواج الخارجي أم مقولة الزواج الداخلي. وقد تبددت هذه السخافة من تلقاء ذاتها عند اكتشاف العشيرة القائمة على قرابة الدم وعند اكتشاف استحالة الزواج بين أعضاء العشيرة بسبب هذه القرابة- وبديهي أن تحريم الزواج داخل العشيرة في الطور الذي نجد فيه الإيروكوا لا يزال ساري المفعول بكل صرامة.
4.كانت أموال الموتى تنتقل إلى أعضاء العشيرة الباقين، وكان ينبغي أن تبقى داخل العشيرة. وبما أن الأشياء التي كان يمكن أن يخلفها الإيروكي بعد موته زهيدة جداً، فإن أقرب أقربائه كانوا يتقاسمونها فيما بينهم، فإذا توفي رجل، تقاسم التركة أخوته وأخواته من أمه وخاله، وإذا توفيت امرأة، تقاسم التركة أولادها وأخواتها من أمها، دون أخوتها. ولسبب نفسه، لم يكن بإمكان الزوج والزوجة أن يرث أحدهما الآخر، وكذلك لم يكن بإمكان الأولاد أن يرثوا أباهم.
5.كان أعضاء العشيرة ملزمين بعضهم حيال بعض بتقديم المساعدة والحماية ولا سيما بالمساهمة في أخذ الثأر عن أذى ألحقه الغير. وكان كل فرد يتكل على حماية العشيرة فيما يتعلق بضمان أمنه وسلامته، وكان بوسعه الاعتماد عليها، فإن من كان يؤذيه إنما كان يؤذي بالتالي عشيرة بأسرها. ومن هنا، من روابط الدم في العشيرة، نشأ واجب أخذ الثأر، الذي كان يعترف به الإيروكوا بلا قيد ولا شرط. فإذا قتل عضو من العشيرة شخصاً من عشيرة أخرى، فإن كل عشيرة القتيل كانت ملزمة بأخذ الثأر. في البدء كانت تجري محاولة للصلح. فإن مجلس عشيرة القاتل كان يجتمع ويعرض على مجلس عشيرة القتيل إنهاء المشكلة حبياً، معرباً في معظم الأحيان عن أسفه ومقدما هدية كبيرة. فإذا قبل العرض، اعتبر الخلاف مفضوضاً، وإلا، فإن العشيرة المتضررة كانت تعين شخصاً أو عدة أشخاص من أجل الانتقام، وكان هؤلاء ملزمين بأن يتتبعوا القاتل ويقتلوه. وإذا تم ذلك، فلم يكن يحق لعشيرة هذا الأخير أن تتشكى وتطالب، وكان الخلاف يعتبر مفضوضاً.
6.تملك العشيرة أسماء معينة أو مجموعات من الأسماء لا يحق لغيرها في القبيلة كلها أن يستعملها، وهكذا كان اسم كل فرد بمفرده يبين كذلك العشيرة التي ينتسب إليها. وكان كل اسم مقروناً بالضرورة بحقوق العشيرة التي يخصها هذا الإسم.
7.وسع العشيرة أن تتبنى أغراباً، وأن تقبلهم بالتالي كأعضاء في القبيلة بأسرها. وعليه كان أسرى الحرب الذين لا يقتلونهم يصبحون، بحكم تبنيهم في عشيرة ما، أعضاء في قبيلة سينيكا وينالون بالتالي جميع حقوق العشيرة والقبيلة. وكان التبني يجري باقتراح من مختلف أعضاء العشيرة، باقتراح النساء اللواتي يأخذن الغريب كإبن، وللمصادقة على التبني، كان ينبغي إقامة احتفال خاص بالقبول في العشيرة. وفي كثير من الأحيان، كانت بعض العشائر المستضعفة لأسباب قاهرة تقوى على هذا النحو عدداً بتبني أعضاء عشيرة أخرى بالجملة، بموافقة هذه العشيرة الأخيرة. وعند الإيروكوا، كان القبول الاحتفالي في العشيرة يجري أثناء جلس علنية لمجلس القبيلة، الأمر الذي كان يحول عملياً هذا الإجراء إلى احتفال ديني.
8.من العسير تقديم البرهان على وجود احتفالات دينية خاصة عند عشائر الهنود الحمر، ولكن احتفالات الهند الحمر الدينية ترتبط إلى هذا الحد أو ذاك بالعشيرة. وفي أعياد الإيروكوا الدينية السنوية الستة، كان “الساخمات” والقادة العسكريون في كل عشيرة يعتبرون، بحكم وظائفهم، من عداد “حراس الإيمان” ويقومون بوظائف الكهان.
9.تملك العشيرة مدفناً مشتركاً. وقد زال هذا المدفن الآن عند الإيروكوا بولاية نيويورك الذين يضيق عليه البيض من جميع الجهات، ولكنه كان موجوداً من قبل. وهو لا يزال موجوداً عند الهنود الحمر الآخرين، ومنهم مثلاً أقرباء الإيروكوا، التوسكارورا، فعند هؤلاء في المدفن، رغم أنهم مسيحيون، صف خاص بكل عشيرة، بحيث أنهم يدفنون الأم، لا الأب، قرب الأولاد في صف واحد. ناهيك بأن كل عشيرة المتوفى عند الإيروكوا تشترك في الدفن وتعني بالمدفن وكلمات التأبين، الخ..
10.للعشيرة مجلس هو عبارة عن جمعية ديموقراطية لجميع أعضاء العشيرة الراشدين، رجالاً ونساءً، ولجميعهم الحق نفسه في التصويت. كان هذا المجلس ينتخب ويقيل “الساخمات”، والقادة العسكريين، وكذلك “حراس الإيمان” الآخرين. وكان المجلس يتخذ القرارات بشأن فدية (vergeld، ثمن الدم) أو أخذ ثأر القتلى من أعضاء العشيرة، وكان يقبل الأغراب في قوام العشيرة. وبكلمة، كان المجلس السلطة العليا في العشيرة.
هذه هي وظائف العشيرة النموذجية من الهنود الحمر.
“جميع أعضائها أناس أحرار وملزمون بحماية حرية بعضهم بعضاً، ومتساوون في الحقوق الشخصية- فلا “الساخمات” ولا القادة العسكريون يدعون بأي أفضليات. وهم يشكلون أخوية تشد لحمتها روابط الدم. إن الحرية والمساواة والأخوة كانت المبادئ الأساسية في العشيرة، رغم أنها لم تتبلور يوماً في صيغة معينة، وكانت العشيرة بدورها وحدة نظام اجتماعي كامل وأساس مجتمع الهنود الحمر المنظم. وهذا ما يفسر الشعور الثابت الذي لا يلين بالاستقلال وبالكرامة الشخصية، ذلك الشعور الذي يعترف به كل امرئ للهنود الحمر”(81) .
في عهد اكتشاف أمريكا، كان الهنود الحمر في عموم أميركا الشمالية منظمين في عشائر حسب الحق الأمي. إلا في بعض القبائل، كقبيلة داكوتا، مثلاً، كانت العشائر قد زالت، وكانت عند بعضها الآخر، كما عند قبيلتي أودجيبفه وأوماها، منظمة حسب الحق الأبوي.
و عند عدد كبير جداً من قبائل الهنود الحمر التي تضم كل منها خمس أو ست عشائر، نجد ثلاث أو أربع عشائر أو أكثر متجمعة في جماعة خاصة يسميها مورغان فراترية phratria (أخوية fraternité)، مترجماً اسمها الهندي بكل أمانة إلى مقابله اليوناني. فعند قبيلة سينيكا، مثلاً، فراتريتان (أخويتان)، الفراترية الأولى تضم العشائر 1-4 والفراترية الثانية تضم العشائر 5-8. وقد بين المزيد من البحث والدراسة أن هاتين الفراتريتين تمثلان في معظم الحالات العشائر الأولية التي انقسمت إليها القبيلة للمرة الأولى. لأنه كان ينبغي بالضرورة على كل قبيلة أن تشمل عشيرتين على الأقل لكي تتمكن من العيش بصورة مستقلة، لأن الزواج كان ممنوعاً داخل العشيرة.و بقدر ما كانت القبيلة تنمو، كانت كل عشيرة تنقسم بدورها إلى عشيرتين أو أكثر كانت كل منها تظهر بأنها عشيرة مستقلة، بينا العشيرة الأولية التي تشمل جميع العشائر البنات تظل قائمة بوصفها فراترية. وعند قبيلة سينيكا وأغلبية الهنود الحمر الآخرين، تعتبر عشائر فراترية واحدة عشائر شقيقة،بينا عشائر الفراترية الأخرى تعتبر بالنسبة لها عشائر شقيقة من الدرجة الثانية، – وهذه تعابير لها في نظام القرابة الأميركي، كما سبق ورأينا، معنى فعلياً جداً وواسع الدلالة. ففي البدء، لم يكن بوسع أي عضو من قبيلة سينيكا أن يتزوج في داخل فراتريته، ولكن هذه العادة زالت من زمان بعيد، ولا يسري مفعولها إلا ضمن العشيرة. وتقول أساطير قبيلة سينيكا أن عشيرتي “الدب” و”الأيل” كانتا العشيرتين الأوليين اللتين تحدرت منهما العشائر الأخرى. وما أن رسخ هذا التنظيم الجديد، حتى أخذ يتغير حسب الحاجة، فإذا اندثرت عشائر فراترية من الفراتريات، كانت عشائر بكاملها تنتقل إليها، على سبيل التعويض، في كثير من الأحيان، من فراتريات أخرى. ولهاذ نرى عند مختلف القبائل عشائر بالأسماء نفسها، متجمعة بصور مختلفة في فراتريات.
إن وظائف الفراتريات عند الإيروكوا هي اجتماعية جزئياً ودينية جزئياً:
1.تلعب الفراتريات في الكرة إحداها ضد الأخرى. وكل فراترية تنتدب خيرة لاعبيها، بينا الباقون يشاهدون اللعب، كل فراترية في مكان خاص بها، ويراهنون بعضهم بعضاً على انتصار لاعبيهم.
2.في مجلس القبيلة، يجلس ساخمات كل فراترية وقادتها العسكريون معاً، جماعة مقابل جماعة، وكل خطيب يخاطب ممثلي كل فراترية كأنما يخاطب فئة خاصة، متميزة.
3.إذا وقعت في القبيلة جريمة قتل، وإذا كان القاتل والقتيل لا ينتسبان إلى الفراترية ذاتها، فإن العشيرة المنكوبة كانت في كثير من الأحيان تستنجد بالعشائر الشقيقة، وآنذاك كانت تعقد مجلس الفراترية وتطلب من الفراترية الأخرى ككل أن تعقد هذه الأخيرة بدورها مجلسها لأجل تسوية القضية. وهكذا تظهر الفراترية هنا من جديد بوصفها العشيرة الأولية، البدائية،-و على هذا النحو كانت احتمالات النجاح تتوفر للفراترية أكثر مما للعشيرة المنفردة، الضعيفة، المتحدرة منها.
4.في حال وفاة الأشخاص البارزين، كانت الفراترية المقابلة تأخذ على عاتقها أمر الاهتمام بالدفن ومراسم الجنازة، بينا كان أعضاء فراترية المتوفى يشتركون في الدفن بوصفهم أقارب الراحل. وإذا توفي “الساخم”، كانت الفراترية المقابلة تنبئ مجلس الإيروكوا الاتحادي بفراغ المنصب.
5.و عند انتخاب “الساخم” كان مجلس الفراترية يدخل الحلبة أيضاً. فقد كانت مصادقة العشائر الشقيقة على الانتخاب تعتبر بمثابة أمر بديهي، ولكنه كان بوسع عشائر الفراترية الأخرى تقديم اعتراض. وفي هذه الحالة، كان مجلس هذه الفراترية ينعقد. فإذا اعتبر الاعتراض صحيحاً، فإن الانتخاب يصبح باطلاً لا مفعول له.
6.من قبل، كان عند الإيروكوا أسرار دينية خاصة سماها البيض médicine- lodges *[1]. وهذه الأسرار الدينية كانت تحتفل بها عند قبيلة سينيكا أخويتان دينيتان تتبعان قواعد خاصة لإشراك الأعضاء الجدد في معرفة هذه الأسرار. وكان لكل فراترية من الاثنتين أخوية واحدة.
7.و إذا كانت الـ lineages (الأسباط) الأربعة التي كانت تسكن أحياء تلاسخالا الأربعة في زمن الفتح (82) أربع فراتريات،- وهذا أمر لا ريب فيه تقريباً،- فإن هذا يثبت أن الفراتريات كانت في الوقت نفسه وحدات عسكرية، شأنها شأن الفراتريات عند اليونانيين وشأن جماعة عشيرية مماثلة عند الجرمان. وهذه الـ lineages الأربعة كانت تدخل المعركة كل منها كفصيلة خاصة متميزة لها لباسها الخاص ورايتها الخاصة، وتحت أمرة زعيمها الخاص.
و كما أن بضع عشائر تؤلف فراترية، كذلك تؤلف بضع فراتريات قبيلة، إذا أخذنا بالحسبان الشكل الكلاسيكي. وفي بعض الحالات، لا توجد عند القبائل المستضعفة جداً الحلقة الوسطية، أي الفراترية. فما الذي يميز إذن قبيلة الهنود الحمر في أميركا؟
1.الأرض الخاصة والاسم الخاص. فكل قبيلة كانت تملك، عدا مكان إقامتها الفعلي، منطقة كبيرة من الأرض لأجل الصيد البري والمائي. وفيما وراء حدود هذه المنطقة كان يقع قطاع حيادي شاسع يمتد حتى حدود أرض أقرب قبيلة، وكان هذا القطاع أضيق بين القبائل التي تتكلم بلغات متقاربة، وأوسع بين القبائل التي تتكلم بلغات مختلفة. إن هذا القطاع هو مثل الغابة- الحد عند الجرمان، والربع الخالي الذي كان suéves (سويف) القيصر ينشئونه حول أرضهم، وîsarnholt (بالدانماركية jarnved, limes Danicus) بين الدانماركية والجرمان، والغاب الساكسوني وbranibor (بالسلافية:”الغابة الحامية”)- التي جاء منها اسم براندنبورغ- بين الجرمان والسلاف. وكانت المنطقة المحددة على هذا النحو غير واضحة تشكل بلد القبيلة العام المشترك، وكانت القبائل المجاورة تعترف بها بهذه الصفة، وكانت القبيلة المعنية تحميها من الاعتداءات. وفي معظم الأحيان، لم يكن عدم وضوح الحدود يمسي في الواقع أمرً مزعجاً إلا عندما كان عدد السكان ينمو كثيراً جداً. – ويبدو أن أسماء القبائل كانت تنشأ في معظم الأحيان بفعل الصدفة أكثر مما كانت نتيجة اختيار مقصود. ومع مرور الزمن، كان يحدث أحياناً كثيرة أن تطلق القبائل المجاورة على القبيلة اسماً يختلف عن الاسم الذي اختارته هي لنفسها، مثلما أطلق السلت على الألمان اسمهن المشترك الأول في التاريخ، وهو اسم “الجرمان”.
2.لهجة dialecte خاصة تتميز بها هذه القبيلة وحدها. وفي الواقع تتطابق القبيلة واللهجة من حيث جوهر الأمر. إن التشكل الجديد للقبائل واللهجات من جراء الانقسامات كان لا يزال يجري لأمد قريب في أميركا، ومن المؤكد أنه لم يتوقف بعد كلياً الآن. وحيث كانت تندمج قبيلتان ضعفتا عددياً في قبيلة واحدة، كان يحدث بصورة استثنائية أن يتكلموا في القبيلة نفسها بلهجتين متقاربتين جداً. إن متوسط عدد أفراد كل من القبائل الأميركية أقل من 2000 شخص، ولكن أفراد قبيلة تشيروكي 26000، وهذا أكبر عدد من الهنود الحمر في أميركا يتكلمون بلهجة واحدة.
3.الحق في الاحتفال بتنصيب “الساخمات” والقادة العسكريين الذين انتخبتهم العشائر.
4.الحق في إقالتهم، حتى رغم إرادة عشيرتهم. وبما أن هؤلاء الساخمات والقادة العسكريين هم أعضاء في مجلس القبيلة، فإن حقوق القبيلة هذه حيالهم تفسر نفسها بنفسها. وحيث كان يتشكل اتحاد من قبائل وحيث كانت جميع القبائل الداخلة فيه تتمثل في مجلس اتحادي، كانت هذه الحقوق تنتقل إلى هذا المجلس.
5.تصورات دينية مشتركة (ميثولوجيا) وطقوس دينية مشتركة.
“كان الهنود الحمر، على طريقتهم البربرية، شعباً دينياً”(83).
إن ميثولوجيا الهنود الحمر لم تكن أبداً حتى الآن موضع دراسة انتقادية، فقد كانوا يضفون على أغراض تصوراتهم الدينية-
الأرواح من كل شاكلة وطراز-سيماء بشرية، ولكن الطور الأدنى من البربرية الذي كانوا قد بلغوه لا يعرف بعد التشخيصات
الواضحة، الملموسة، المسماة بالأصنام. كانت تلك عبادة الطبيعة وعناصر تتطور نحو تعدد الآلهة. وكانت لمختلف القبائل
أعياد منتظمة مرفقة بأشكال معينة من الطقوس، هي الرقصات والألعاب. وكانت الرقصات على الأخص جزءً جوهرياً لا يتجزأ من
جميع الاحتفالات الدينية. وكانت كل قبيلة تحتفل بأعيادها بمفردها.
6.مجلس القبيلة لبحث الشؤون المشتركة، العامة. وكان يتألف من جميع الساخمات وجميع القادة العسكريين لمختلف العشائر، أي من ممثليها الحقيقيين، لأنه كان يمكن دائماً إقالتهم. كان المجلس يعقد جلساته علناً، محاطاً بسائر أعضاء القبيلة، وكان لهؤلاء الحق في الاشتراك في المناقشة وفي عرض آرائهم. وكان المجلس هو الذي يقرر. وعلى العموم، كان في وسع كل حاضر أن يعرب عن رأيه، إذا ما رغب في ذلك. كما كان في وسع النساء أيضاً عرض اعتباراتهن بواسطة الخطيب الذي ينتخبنه. وعند الإيروكوا، كان الإجماع ضرورياً لاتخاذ القرار النهائي، كما كان الحال في الماركات- المشاعات الألمانية لأجل حل بعض القضايا. وكانت صلاحيات مجلس القبيلة تشمل مثلاً تسوية العلاقات مع القبائل الأخرى. وكان مجلس القبيلة يستقبل السفراء ويرسل السفراء، ويعلن الحرب ويعقد الصلح. وإذا نشبت الحرب، فقد كان المتطوعون هم الذي يخوضون غمارها على العموم. ومن حيث المبدأ، كانت كل قبيلة تعتبر في حالة حرب مع كل قبيلة أخرى لم تعقد معها معاهدة صلح حسب الأصول. وفي معظم الأحوال، كان المحاربون البارزون ينظمون بصورة فردية الحملات الحربية ضد الأعداء من هذا النوع، فكانوا ينظمون الرقص الحربي، وكل من يشترك في هذا الرقص كان يصرح بالتالي بانضمامه إلى الحملة وعلى الفور كانت الفصيلة تنتظم وتبدأ العمل. كذلك الدفاع عن الأرض التي تخص القبيلة إنما كان يتأمن في معظم الأحوال بتعبئة المتطوعين. ودائماً كان ذهاب هذه الفصائل وعودتها من القتال مناسبة لاحتفالات عامة. ولم تكن ثمة حاجة إلى موافقة مجلس القبيلة على مثل هذه الحملات، ولم تكن هذه الموافقة موضع سؤال وعطاء. وهذا ما يشبه تماماً الحملات الحربية الخاصة التي كانت تقوم بها العصائب الجرمانية، كما وصفها لنا تاقيطس (84) ، إلا أن هذه العصائب اكتسبت عند الجرمان طاباً أكثر دواماً، وهي تشكل نواة ثابتة تنتظم في زمن السلم ويلتف حولها في زمن الحرب المتطوعون الآخرون. ونادراً ما كانت هذه الفصائل الحربية تضم عدداً كبيراً من الأفراد، فإن أكبر حملات الهنود الحمر الحربية، حتى على مسافات كبيرة، كانت تقوم بها قوات حربية ضئيلة. وإذا اتحد بعض من هذه الفصائل للقيام بمشروع كبير إلى هذا الحد أو ذاك، فإن كلاً منها كانت لا تخضع إلا لزعيمها بالذات، أما وحدة خطة الحملة، فقد كان يؤمنها، بهذه الدرجة أو تلك، مجلس هؤلاء الزعماء. وبهذه الطريقة أيضاً، كان الألمان في أعالي الرين يخوضون غمار الحرب في القرن الرابع، حسبما جاء في وصف أميان مرسيللان.
7.عند بعض القبائل، نجد زعيماً أعلى، صلاحياته مع ذلك ضئيلة جداً. وهو واحد من “الساخمات” ينبغي عليه، في الأحوال التي تقتضي العمل الفوري، أن يتخذ إجراءات مؤقتة إلى أن يتمكن المجلس من الانعقاد ويتخذ القرار النهائي. وهنا نجد نموذجاً مسبقاً لموظف يتمتع بالسلطة التنفيذية، ولكنه نموذج لا يزال في أوائل عهده ولم يتطور فيما بعد في معظم الأحوال. إلا أن هذا، كما سنرى فيما بعد، قد ظهر في معظم الأحوال، إن لم يكن دائماً، نتيجة لتطور سلطة القائد العسكري الأعلى.
إن الأغلبية الساحقة من الهنود الحمر الأميركيين لم يتجاوزوا درجة الاتحاد في قبيلة. وكانت قبائلهم القليلة، التي تفصلها بعضها عن بعض رقع عريضة جداً من الأراضي، والتي أضعفتها الحروب الدائمة، تشغل، بعدد قليل من الناس، أرحاباً شاسعة. وهنا وهناك كانت القبائل التي تجمع بينها صلات القربى تعقد الاتحادات بحكم ضرورة مؤقتة، وكانت هذه الاتحادات تزول بزوال هذه الضرورة. ولكن القبائل التي كانت تجمع بينها أولاً صلات القربى، والتي تفرقت فيما بعد، تجمعت من جديد في بعض المناطق في اتحادات دائمة، وبذلك خطت الخطوة الأولى نحو تشكل الأمم. وفي الولايات المتحدة نجد عند الإيروكوا الشكل الأكثر تطوراً لاتحاد من هذا النوع. فإن الإيروكوا قد نزحوا من مكان إقامتهم في غربي نهر الميسيسيبي حيث كانا يؤلفون، حسب كل احتمال، فرعاً من جماعة الداكوتا الكبيرة، وأقاموا بعد ترحلات طويلة في ولاية نيويورك الحالية، وانقسموا إلى خمس قبائل: سينيكا، كايوغا، أونونداغا، أونيدا، موهاوك. وكانوا يعيشون من صيد السمك والصيد البري والبستنة البدائية. وكانوا يسكنون في قرى تحميها الأسيجة الوتدية في معظم الأحوال. ولم يبلغ عددهم أبداً أكثر من 20000 شخص، وكانت في جميع قبائلهم الخمس بعض عشائر مشتركة، وكانوا يتكلمون بلهجات متقاربة جداً من لغة واحدة، ويسكنون في رقعة متصلة من الأرض جرى تقاسمها بين القبائل الخمس. وبما أنهم كانوا قد استولوا على هذه لأرض من زمن غير بعيد، فإن الأعمال المشتركة ين هذه القبائل الظافرة ضد القبائل المطرودة أصبحت ظاهرة طبيعية ومن حكم العادة. وعلى هذا النحو، تكون في مستهل القرن الخامس عشر على أبعد حد، “اتحاد أبدي”-اتحاد تعاهدي confédération، أحس بقواه الجديدة، فاكتسب على الفور طابعاً هجومياً، واستولى في أوج بأسه، حوالي عام 1675، على رقعة كبيرة من الأراضي المحيطة به، طارداً السكان من بعضها وفارضاً الجزية على سكان بعضها لآخر. إن اتحاد الإيروكوا التعاهدي هو أرقى تنظيم اجتماعي توصل إليه الهنود الحمر قبل أن يتجاوزوا الدرجة الدنيا من البربرية (ما عدا، بالتالي، سكان المكسيك والمكسيك الجديدة (85) والبيرو). وفيما يلي سمات الاتحاد الأساسية:
1.الاتحاد الأبدي بين القبائل الخمس التي تجمع بينها قرابة الدم، على أساس المساواة التامة والاستقلال في جميع الشؤون الداخلية للقبيلة. إن قرابة الدم هذه كانت تشكل الأساس الحقيقي للاتحاد. وكانت ثلاث من القبائل الخمس تسمى بالقبائل الأبوية، وكانت شقيقة فيما بينها. وكانت القبيلتان الباقيتان تسميان بالقبيلتين البنتين، وكانتا شقيقتين فيما بينهما. وكانت ثلاث عشائر- هي أقدمها- لا تزال تتمثل بأشخاص أحياء في جميع القبائل الخمس، وثلاث عشائر أخرى في ثلاث قبائل. وكان أعضاء كل من هذه العشائر جميعهم أخوة فيما بينهم في جميع القبائل الخمس. وكانت اللغة المشتركة، التي لا تنطوي إلا على فوارق في اللهجات، تعبيراً عن الأصل المشترك وبرهاناً عليه.
2.كان المجلس الاتحادي، المؤلف من 50 “ساخماً” متساوين في المنزلة والسلطة، هو هيئة الاتحاد. وكان هذا المجلس يتخذ القرارات النهائية في جميع شؤون الاتحاد.
3.عند تأليف الاتحاد، جرى توزيع مناصب هؤلاء “الساخمات” الـ 50 بين القبائل والعشائر، بوصفهم قائمين بوظائف جديدة أنشئت خصيصاً لأغراض الاتحاد. وفي حال شغور المنصب، كانت العشيرة المعنية تملأه من جديد عن طريق الانتخاب. كذلك كان بوسع العشيرة أن تقيل “ساخمها” في أي وقت كان. ولكن تقليد المنصب كان من حق المجلس الاتحادي.
4.كان هؤلاء “الساخمات” الاتحاديون “ساخمات” أيضاً في قبائلهم وكان يحق لهم الاشتراك والتصويت في مجلس القبيلة.
5.جميع قرارات المجلس الاتحادي كان ينبغي اتخاذها بالإجماع.
6.كان التصويت يجري في كل قبيلة بمفردها بحيث أنه كان ينبغي على كل قبيلة وعلى جميع أعضاء المجلس في كل قبيلة أن يصوتوا بالإجماع لكي يعتبر القرار نافذ المفعول.
7.كان بوسع كل من مجالس القبائل الخمس دعوة المجلس الاتحادي إلى الانعقاد، ولكنه لم يكن بوسع المجلس الاتحادي أن ينعقد من تلقاء ذاته.
8.كانت الجلسات تجري بحضور الشعب المجتمع. وكان بوسع كل إيروكي أن يأخذ الكلام. ولكن المجلس وحده هو الذي كان يتخذ القرارات.
9.لم يكن للاتحاد أي رئيس، لم يكن فيه أي شخص يرأس السلطة التنفيذية.
10.و لكنه كان له زعيمان عسكريان أعليان يتمتعان بصلاحيات متساوية وسلطة متساوية (ملكان عند السبرطيين، قنصلان في روما).
هذا هو النظام الاجتماعي الذي عاش الإيروكوا في ظله أثر من أربعمائة سنة ولا يزالون يعيشون في ظله حتى الآن. ولقد وصفت هذا النظام بالتفصيل، حسبما وصفه مورغان لأنه تسنح لنا الفرصة هنا لدراسة تنظيم مجتمع لم يعرف بعد الدولة. فإن الدولة تفترض سلطة عامة منفصلة عن مجموع الأفراد الذين تتالف منهم. وإن مورير، الذي يرى، بدافع الغريزة الصادقة، أن نظام “المارك” الألماني هو مؤسسة اجتماعية صرف تختلف اختلافاً جوهرياً عن الدولة، رغم أنها كانت بمعظمها فيما بعد أساساً للدولة- إن مورير يدرس في جميع مؤلفاته نشوء السلطة العامة تدريجياً من النظام البدائي لـ “المارك” والقرية والعائلة والمدينة، وإلى جانبه (86) . ومن مثال الهنود الحمر في أميركا الشمالية نرى كيف أن قبيلة واحدة موحدة في البدء تنتشر تدريجياً في قارة شاسعة، وكيف أن القبائل تنقسم أقساماً وتتحول إلى شعوب، إلى مجموعات كاملة من قبائل، وكيف تتغير اللغات فلا تبقى مفهومة فيما بينها، وليس هذا وحسب، بل تفقد أيضاً كل أثر تقريباً لوحدتها الأولية، وكيف ينقسم بعض العشائر داخل القبيلة إلى عدة عشائر، وكيف تبقى العشائر الأمية القديمة بصورة “فراتريات” مع العلم أن أسماء هذه العشائر الأولية تبقى مع ذلك هي هي عند قبائل بعيدة بعضها عن بعض من حيث المكان ومنفصلة بعضها عن بعض من زمان بعيد،- إن “الذئب” و”الدب” لا يزالان اسمين عشيريين عند أغلبية جميع قبائل الهنود الحمر. وجميع هذه القبائل يلازمها على العموم النظام الموصوف أعلاه، مع فارق وحيد، هو أن عدداً كبيراً منها لم يصل إلى مرحلة الاتحاد بين القبائل التي تجمع بينها صلات القربى.
و لكننا نرى أيضاً أن نظام العشائر والفراتريات والقبائل كله يتطور بضرورة محتمة لا مناص منها تقريباً ،- لأنها ضرورة طبيعية تماماً- من هذه الخلية الاجتماعية الأساسية التي هي العشيرة. فإن هذه المجموعات الثلاث كلها – العشائر والفراتريات والقبائل- هي درجات مختلفة من قرابة الدم، مع العلم أن كلاً منها منطوية على نفسها وتصرف شؤونها بنفسها، ولكنها كذلك بمثابة مكملة للأخرى. وإن حلقة الشؤون التابعة لها تشمل مجمل شؤون الإنسان العامة، الاجتماعية، في الطور الأدنى من البربرية. ولهذا عندما نجد عند شعب من الشعوب العشيرة بوصفها الخلية الاجتماعية الأساسية، ينبغي علينا أن نفتش عنده عن تنظيم قبلي يشبه التنظيم الموصوف هنا، وحيث يتوفر ما يكفي من المصادر، كما عند اليونانيين والرومانيين، لا نجده وحسب، بل نقتنع أيضاً بأن المقارنة مع النظام الاجتماعي الأميركي، حتى وإن كانت المصادر لا تكفي، تساعدنا في تفهم أصعب الشكوك والألغاز.
و أي تنظيم عجيب هذا النظام العشائري مع كل سذاجته وبساطته! فبدون جنود ودرك وشرطة، بدون نبلاء وملوك وحكام ومدراء وقضاة، بدون سجون، بدون محاكمات، يسير كل شيء حسب النظام المقرر. وجميع المنازعات والمخاصمات يحلها معاً أولئك الذين تمسهم- تحلها العشيرة أو القبيلة، أو بعض العشائر فيما بينها، ولا يظهر التهديد بالثأر إلا بوصفه الوسيلة الأخيرة، الوسيلة التي نادراً ما تطبق، وإن عقوبة الإعدام عندنا ليست غير شكلها المتمدن الذي تلازمه جوانب المدنية، الإيجابية منها والسلبية على السواء. صحيح أن الشؤون العامة كانت أكثر بكثير مما هي عليه اليوم- فإن الاقتصاد البيتي تديره مجموع من العائلات بصورة مشتركة وعلى الأسس الشيوعية، والأرض ملك للقبيلة بأسرها، ما عدا قطع صغيرة توضع مؤقتاً تحت تصرف مختلف البيوت – إلا أننا لا نجد أثراً لجهازنا الإداري المضخم والمعقد. وجميع الشؤون يحلها ذوو العلاقة بأنفسهم، وفي معظم الأحوال، سوّت العادة المزمنة كل شيء سلفاً. ولا يمكن أن يكون ثمة فقراء ومعوزون، لأن الاقتصاد الشيوعي والعشيرة يعرفان واجباتهما حيال الشيوخ والمرضى ومشوهي الحرب. الجميع متساوون وأحرار، بمن فيهم النساء. ولا وجود بعد للعبيد، ولا وجود بعد، على العموم، لاستعباد القبائل الغريبة. وعندما تغلب الإيروكوا حوالي عام 1651 على قبيلة يري وعلى “الأمة المحايدة”(87) ، عرضوا عليهما الانضمام إلى اتحادهم بحقوق متساوية. وعندما رفض المغلوبون هذا العرض، عند ذاك فقط، طردوهم من أرضهم. أما أي رجال ونساء يلدهم مثل هذا المجتمع، فهذا ما يبرهنه جميع البيض الذين عرفوا هنوداً حمراً غير مفسودين بإعجابهم بما يتصف به هؤلاء البرابرة من شعور بالكرامة الشخصية، واستقامة، وقوة طبع، وبسالة وجرأة.
و منذ وقت غير بعيد رأينا أمثلة على هذه البسالة في إفريقيا. فإن الكفر- الزولو، منذ بضعة أعوام، مثلهم مثل النوبيين، منذ بضعة أشهر- وهم قبيلتان لم تندثرا بعد عندهما المؤسسات العشائرية- قد فعلوا ما لا يستطيع فعله أي جيش أوروبي (88) . كانا مسلحين بالرماح والمزاريق فقط، ولا يملكون أي سلاح ناري، ومع ذلك كانوا، تحت وابل من رصاص البنادق السريعة الطلقات لدى المشاة البريطانيين- الذين يعتبرهم الجميع الأوائل في العالم في القتال صفوفاً- يسيرون إلى أمام حتى حراب المشاة البريطانيين، ويزعزعون صفوفهم أكثر من مرة، بل كانوا يدحرونهم، رغم التفاوت الهائل في الأسلحة، ورغم أنهم يجلهون الخدمة العسكرية ولا يعرفون ما هو التدريب العسكري. أما ما يستطيعون احتماله وأداءه، فيشهد عليه الإنجليز أنفسهم حين يتذمرون من أن الكفر-الزولو يقطع في يوم واحد أكثر مما يقطعه الحصان، وبصورة أسرع. إن أصغر عضلاته قوي كالفولاذ، ويبرز مثل سير مجدول، كما قال رسام إنجليزي.
هذا جانب من المسألة. ولكن لا ننس أن هذا التنظيم كان مكتوباً له الزوال. فإنه لم يتخط نطاق القبيلة. إن تشكيل اتحاد القبائل كان يعني بداية تفسخ هذا التنظيم، كما سنرى فيما بعد، وكما رأينا في محاولات الإيروكوا لاستعباد القبائل الأخرى. فكل ما كان خارج القبيلة كان خارج القانون. وحيث لم تكن معاهدة صلح معقودة حسب الأصول، كانت الحرب تسود بين القبائل، وكانت هذه الحرب تخاض بالقساوة التي تميز الإنسان عن الحيوانات الأخرى والتي لم تخف حدتها إلا فيما بعد بتأثير المصالح المادية. إن النظام العشائري في أوجه، كما رأيناه في أميركا، كان يفترض إنتاجاً بدائياً جداً، وبالتالي، سكاناً قليلين جداً مبعثرين في رقعة شاسعة من الأرض، ومن هنا خضوع الإنسان خضوعاً تاماً تقريباً للطبيعة المحيطة به التي تقابله بالعداء والتي لا يفهما، الأمر الذي ينعكس في تصوراته الدينية الساذجة الطفولية. وقد بقيت القبيلة بالنسبة للإنسان حداً سواء حيال ابن قبيلة أخرى، أو حيال نفسه بالذات: كانت العشيرة والقبيلة ومؤسساتهما مقدسة ومنيعة لا يجوز المساس بها، وكانت سلطة عليا منحتها الطبيعة وظل الفرد بمفرده خاضعاً لها بلا قيد ولا شرط في مشاعره وأفكاره وتصرفاته. ومهما بدا أناس ذلك الزمن مهيبين في عيوننا، فإنه لا يمكن تمييز بعضهم عن بعض، ولم ينفصلوا بعد، على حد قول ماركس، عن حبل المشاع البدائية السري. كان نبغي تحطيم سلطة هذه المشاعة البدائية، فحطمت. ولكنها حطمت بتأثيرات تبدو لنا من الوهلة الأولى، بمثابة انحطاط، بمثابة خطيئة أصلية بالمقارنة مع المستوى الأخلاقي العالي الذي بلغه المجتمع العشائري القديم. إن أحط الدوافع –الجشع الخشن، الولع الفظ باللذائذ، البخل القذر، السعي الأناني إلى نهب الملك المشترك- هي التي تدشن المجتمع الجديد المتمدن، المجتمع الطبقي، وأن أخس الوسائل – السرقة، العنف، الغدر، الخيانة- هي التي تقوض المجتمع العشائري اللاطبقي القديم وتؤدي إلى هلاكه. أما المجتمع الجديد نفسه، فإنه لم يكن خلال الألفين والخمسمائة سنة كلها من وجوده غير لوحة عن تطور الأقلية الضئيلة على حساب الأغلبية الهائلة من المستثمرين والمظلومين، وهو لا يزال الآن كذلك ولكن بقدر أكبر مما في أي وقت مضى.
(80). راجعوا الملاحظة رقم 36.
(81). يورد إنجلس الاستشهاد نقلاً عن “ملخص كتاب لويس هـ. مورغان “المجتمع القديم”” لكارل ماركس.
(82). المقصود هنا استيلاء الفاتحين الإسبان على المكسيك في سنوات 1519-1521.
(83). L. H. Morgan. “Ancient Society”. London,1877. (ل. هـ. مورغان. “المجتمع القديم” لندن، 1877).
(84). هنا وفيما بعد، يقصد إنجلس كتاب تاقيطس “جرمانيا”.
(85). المكسيكيون الجدد. راجعوا الملاحظة رقم 13.
(86).المقصود هنا مؤلفات غيورغ لودفيغ مورير "Einleitung zur Geschichte der Mark, Hof-, Dorf- und Stadt-Verfassung und der öffentlichen Gewalt". München, 1854. ("مقدمة لتاريخ نظام المارك و العائلة و القرية و المدينة و السلطة العامة". ميونيخ، 1856)، " Geschichte der Fronhöfe, der Bauernhöfe und der Hofverfassung in Deutsch-land". Bd. I-IV, Erlangen, 1862-1863 ("تاريخ دور الأسياد و دور الفلاحين و نظام العائلة في ألمانيا". المجلدات 1-4. أرلنغن، 1862-1863)، "Geschichte der der Hofverfassung in Deutsch-land". Bd. I-II, Erlangen, 1865-1866 ("تاريخ نظام القرية في ألمانيا". المجلدان الأول و الثاني. أرلنغن، 1865-1866). " Geschichte der Stadt-Verfassung in Deutsch-land". Bd. I-IV, Erlangen, 1869-1871 ("تاريخ نظام المدينة في ألمانيا". المجلدات. 1-4، أرلنغن، 1869-1871).
(87). ”الأمة المحايدة”، هكذا كان يسمى في القرن السابع عشر الحلف العسكري بين بضع قبائل من الهنود الحمر كانت لها صلة قرابة بقبائل الإيروكوا وكانت تعيش عند الضفة الشمالية من بحيرة يري. وقد كان المستعمرون الفرنسيون هم الين أطلقوا هذا الاسم على هذا الحلف لأنه بقي على الحياد في الحروب بين قبائل الإيروكوا الصرف وقبائل الهورون.
(88). المقصود هنا نضال التحرر الوطني الذي خاضه الزولو والنوبيون ضد الاستعماريين البريطانيين.
هاجم البريطانيون قبائل الزولو في كانون الثاني 1879، ولكن قبائل الزولو ظلت، برئاسة زعيمها كتشفايو، تقاوم بصلابة خارقة طول نصف سنة ولم يستطع البريطانيون إحراز النصر إلا بعد جملة من المعارك، وبفضل تفوقهم الساحق في الأسلحة. ولم يستطيعوا إخضاع الزولو لسيطرتهم نهائياً إلا فيما بعد، في عام 1887، باستغلالهم الحرب التي استثاروها بين مختلف قبائل الزولو ودامت بضع سنوات.
في عام 1881 نشبت ثورة التحرر الوطني التي اشترك فيها النوبيون والعرب والقوميات الأخرى في السودان برئاسة محمد أحمد بن عبد الله المهدي، وأحرزت نجاحات خاصة في 1883 و1884، وذلك حين تم تحرير أراضي السودان كلها تقريباً من قوات المستعمرين البريطانيين التي كانت قد تغلغلت في السودان في السبعينات. أثناء الثورة، تشكلت دولة مهدية مركزية مستقلة. ولم تستول قوات المستعمرين البريطانيين على السودان إلا في عام 1899، وذلك باستغلالها ضعف هذه الدولة الداخلي من جراء الحروب المتواصلة والمنازعات بين القبائل، وكذلك باعتمادها على التفوق الساحق في الأسلحة.
[1]. المحافل السحرية. الناشر.