إذا كانت الخطوة التقدمية الأولى في تنظيم العائلة قد تلخصت في تحريم العلاقة الجنسية بين الآباء والأولاد، فقد تلخصت الخطوة الثانية في تحريم العلاقة الجنسية بين الأخوة والأخوات. وقد كانت هذه الخطوة، نظراً للقدر الأكبر من المساواة في العمر بين ذوي العلاقة، أهم من الأولى بما لا حد له، ولكنها كانت أيضاً أصعب منها. فهي لم تتحقق دفعة واحدة، بل تدريجياً، بادئة، حسب كل احتمال، من تحريم العلاقة الجنسية بين الأخوة والأخوات الأخياف (أي من ناحية الأم فقط)، وقد شمل هذا التحريم أولاً حالات منفردة ثم أصبح تدريجياً قاعدة (و في جزر هاواي، كانت لا تزال هناك شواذات على القاعدة في قرننا)، وانتهى بتحريم الزواج حتى في خطوط القربى المنحرفة، أي، حسب تعابيرنا الحالية، بتحريمه بين أولاد وأحفاد وأولاد أحفاد الأخوة والأخوات. وهذا التقدم كان، برأي مورغان، “مثالاً بيانياً ممتازاً على الطريقة التي يسري بها مفعول مبدأ الاصطفاء الطبيعي” (30) .
و لا ريب في أنه كان لا بد للقبائل التي كان فيها سفاح القربى محدوداً بفضل هذه الخطوة أن تتطور بصورة أسرع وأكمل مما تطورت القبائل التي بقي فيها الزواج نين الأخوة والأخوات قاعدة وواجباً. أما أي تأثير قوي كان لهذه الخطوة، فتثبته المؤسسة التي نجمت عنها مباشرة والتي تجاوزت كثيراً غايتها الأولية، وهي مؤسسة العشيرة التي تشكل أساس النظام الاجتماعي عند أغلبية الشعوب البربرية في الأرض، إن لم يكن عند جميعها، والتي ننتقل منها مباشرة في اليونان وروما إلى عصر الحضارة.
و كان لا بد أن تنقسم كل عائلة بدائية بعد بضعة أجيال لا أكثر. فإن الاقتصاد المنزلي المشترك الشيوعي البدائي الذي ظل سائداً بلا منازع قبل ازدهار الدرجة المتوسطة من البربرية كان يعين أبعاداً قصوى للمشاعة العائلية تتغير تبعاً للظروف، ولكنها ثابتة إلى هذا القدر أو ذاك في كل مرحلة بعينها. ولكن ما إن ظهرت فكرة عدم جواز العلاقة الجنسية بن أولاد أم واحدة حتى اضطلعت بدورها بالضرورة عند انقسام المشاعات المنزلية القديمة وعند تأسيس مشاعات منزلية جديدة (كانت لا تتطابق حتماً مع الجماعة العائلية). فقد كانت مجموعة أو بضع مجموعات من الأدوات تصبح نواة مشاعية واحدة وكان أخوتهن الأخياف يصبحون نواة مشاعية أخرى. وعلى هذا النحو أو بنحو مماثل، نجم من عائلة قربى الدم شكل للعائلة أسماه مورغان بالشكل البونالواني. وحسب العادة الهاوايية، كان عدد معين من الأخوات هن أخوات من أم واحدة أو على علاقة قربى أبعد (بنات خالات وأخوال وأعمام وعمات من الدرجة الأولى والثانية، الخ..) زوجات مشتركات لأزواجهن المشتركين، ولكن باستثناء أخوتهن، ولم يعد هؤلاء الرجال يسمون بعضهم بعضاً بالأخوة، فضلاً عن أنه لم يعد من الواجب أن يكونوا أخوة، بل “بونالوا” Punalua وكلمة بونالوا تعني رفيقاً قريباً أو associé *[1] إذا جاز القول. وعلى النحو ذاته، كانت مجموعة من الأخوة، أخوة من أم واحدة أو على علاقة قربى أبعد، تدخل في زواج مشترك مع عدد معين من النساء ولكن من غير أخواتهم، وكانت هؤلاء النساء يسمين بعضن بعضاً بالبونالوا. هكذا كان الشكل الكلاسيكي للتكوينة العائلة، وهذا الشكل طرأت عليه فيما بعد تغيرات وكان سمته المميزة الرئيسة الشراكة المتبادلة للرجال والنساء داخل حلقة عائلية معينة، ولكن هذه الحلقة لم تكن تشمل أخوة الزوجات، الأخوة الأخياف في البدء، ثم أيضاً الأخوة على درجات أبعد من القربى، وكذلك من الناحية المقابلة أخوات الأزواج.
إن شكل العائلة هذا هو الذي يقدم لنا بكامل الدقة درجات القرابة التي يعبر عنها النظام الأميركي. فإن أولاد أخوات أمي لا يزالون أولادها أيضاً، مثلما كان أولاد أخوة والدي لا يزالون أولاده، وجميعهم أخوتي وأخواتي. ولكن أولاد أخوة مي أصبحوا الآن أبناء وبنات أخوتها، وأولاد أخوات والدي أصبحوا أبناء وبنات أخواته، وجميعهم أصبحوا أخوتي وأخواتي من الدرجة الثانية أي أبناء وبنات أخوالي وعماتي. وبالفعل، بينا أزواج أخوات أمي لا يزالون أزواجها، مثلما زوجات أخوة والدي لا يزلن زوجاته، شرعاً إن لم يكن دائماً فعلاً، أدى تنديد المجتمع بالعلاقة الجنسية بين الأخوة والأخوات من الدرجة الأولى إلى انقسام أولاد الأخوة والأخوات إلى قسمين، مع إنهم كانوا قبل ذلك يعتبرون بلا تمييز أخوة وأخوات: فإن بعضهم يبقون فيما بينهم كما من قبل أخوة وأخوات (حتى وإن كانا على درجات أبعد من القرابة)، أما البضع الآخر، أي أولاد الأخ من جهة، وأولاد الأخت من جهة أخرى، فلم يبق بوسعهم أن يكونوا أخوة وأخوات، لم يبق بوسعهم أن يكون لهم آباء مشتركون، لا أب مشترك ولا أم مشتركة لا الأب والأم معاً، ولهذا تظهر هنا للمرة الأولى الحاجة إلى فئة أبناء بنات الأخ والأخت، وأبناء وبنات العم والخال والعمة والخالة (أو الأخوة والأخوات من الدرجة الثانية)، أي إلى فئة لم يكن لها أي معنى في ظل النظام العائلي السابق. إن نظام القرابة الأميركي الذي يبدو أخرق تماماً في كل شكل للعائلة يرتكز على هذا النوع أو ذاك من الزواج الأحادي، إنما يجد لنفسه تفسيراً معقولاً وتعليلاً طبيعياً، بما في ذلك أقل تفاصيله، في العائلة البونالوانية. وبقدر ما انتشر نظام القرابة هذا، كان لا بد، على الأقل، أن توجد أيضاً العائلة البونالوانية أو شكل ما للعائلة مماثل.
و من المحتمل أننا كنا حصلنا في عموم بولينيزيا على المعلومات عن شكل العائلة هذا الذي أقيم البرهان على وجوده فعلاً في جزر هاواي، لو استطاع المرسلون الأتقياء مثلهم مثل القسس الإسبانيين الطيبي الذكر في أميركا، أن يروا في هذه العلاقات المناقضة للأخلاق المسيحية شيئاً غير “الرذائل”**[2] . وعندما يحكي لنا قيصر عن البريطانيين Bretons الذين كانوا في زمنه في الطور الأوسط من البربرية ويقول أن “عند كل عشرة رجال أو اثني عشر رجلاً زوجات مشتركات، ناهيك بأنهن في أغلب الأحوال مشتركات بين الأخوة أو بين الآباء والأبناء” (33) ، فإن خير تفسير لهذا الوضع إنما هو وجود الزواج الجماعي. ففي مرحلة البربرية، لم يكن لدى كل من الأمهات عشرة أولاد أو اثنا عشر ولداً بسن تتيح لهم أخذ زوجات مشتركات، بينا نظام القرابة الأميركي الذي يناسب العائلة البونالوانية يفترض عدداً كبيراً من الأخوة لأن جميع أبناء العم والخال الأقربين والأبعدين لكل رجل هم أخوته. أما فيما يخص “الآباء والأبناء”، فمن الممكن أن يكون قيصر قد أخطأ. صحيح أنه ليس من المستبعد إطلاقاً في ظل هذا النظام أن ينتسب الأب والابن أو الأم والابنة إلى مجموعة زواجية واحدة، ولكنه من المستحيل بالمقابل وجود الأب والابنة أو الأم والابن في هذه المجموعة. كذلك بالذات يقدم هذا الشكل من الزواج الجماعي أو شكل مماثل له أسهل تفسير لأخبار هيرودوتس وغيره من قدماء الكتاب عن شراكة النساء عند الشعوب المتوحشة والبربرية. وهذا ما يصح أيضاً على ما يرويه وطسن وكاي (“سكان الهند” (34) ) عن التيكور في أوذ (شمال نهر الغانج):
“إنهم يعيشون معاً” (و المقصود بذلك العلاقات الجنسية)”بغير نظام تقريباً، في نطاق جماعات كبيرة، وإذا كان اثنان منهم يعتبران زوجاً وزوجة، فإن علاقة الزواج هذه ليست إلا إسمية”.
أغلب الظن أن مؤسسة العشيرة قد نشأت مباشرة من العائلة البونالوانية في معظم الحالات. صحيح أنه من الممكن أن يكون النظام الأوسترالي لطبقات الزواج (35) قد قدم هو أيضاً نقطة انطلاق لهذه المؤسسة: فعند الأوستراليين توجد عشائر ولكنه لا توجد بعد عندهم عائلة بونالوانية، بل شكل أكثر بدائية للزواج الجماعي.
و في جميع أشكال العائلة الجماعية، لا تمكن معرفة والد الطفل بدقة، ولكنه تمكن معرفة أمه بدقة. وإذا كانت تسمي جميع أولاد العائلة المشتركة أولادها، وتتحمل حيالهم واجبات الأمومة، فإنها مع ذلك تميز أولادها بالذات عن الباقين. ومن هنا يتضح أنه ما دام الزواج الجماعي قائماً، لا يمكن إثبات الأصل إلا من ناحية الأم، ولا يمكن بالتالي الاعتراف إلا بخط الأم. وهكذا كان الحال فعلاً عند جميع الشعوب المتوحشة وعند جميع الشعوب التي بلغت الدرجة الدنيا من البربرية. ومأثرة باهوفن الثانية الكبرى، أنه كان أول من اكتشف ذلك. وهو يطلق اسم حق الأم على هذا الاعتراف بالأصل بموجب خط الأم بوجه الحصر، وعلى علاقات الإرث التي نشأت من هنا وتطورت مع مرور الزمن، وإني احتفظ بهذا الاسم لإيجازه، ولكنه غير موفق، لأنه لا يمكن بعد التحدث في هذه المرحلة من تطور المجتمع عن الحق بالمعنى الحقوقي.
و إذا أخذنا الآن من العائلة البونالوانية جماعة من جماعتيها النموذجيتين، وعلى وجه الضبط جماعة الأخوات من أم واحدة أو من درجات قرابة أبعد (أي متحدرات من أخوات من أم واحدة في الجيل الأول أو الثاني أو ما يليه)- مع أولادهن وأخوتهن- الأخياف أو من درجات قرابة أبعد من ناحية الأم (الذين ليسوا، حسب افتراضنا، أزواجهن) لرأينا على وجه الضبط تلك الحلقة من الأشخاص الذين يبرزون فيما بعد كأعضاء العشيرة بشكلها الأولي. فإن لجميعهم جدة واحدة مشتركة، وجميع ذريتها النسائية في كل جيل هن أخوات فيما بينهن بحكم تحدرهن منها. ولكنه لم يبق بمستطاع أزواج هؤلاء الأخوات أن يكونوا أخوتهن ولا يمكن أن يتحدروا بالتالي من هذه الجدة ولا يمكنهم بالتالي أن يدخلوا في قوام هذه الجماعة التي تربط بين أعضائها قرابة الدم والتي غدت فيما بعد العشيرة. ولكن أولادهم ينتمون إلى هذه الجماعة لأن النسب حسب خط الأم هو وحده الذي يضطلع بالدور الفاصل نظراً لأنه هو وحده ثابت لا ريب فيه. ومع إقرار تحريم العلاقات الجنسية بين الأخوة والأخوات، وحتى بين أبعد أقرباء خط القرابة المنحرف من جهة الأم، تحولت الجماعة المعنية إلى عشيرة أي أنها تشكلت بوصفها حلقة ثابتة من أقارب بالدم حسب حبل النسل النسائي لا يستطيعون أن يتزاوجوا فيا بينهم، وهذه الحلقة أخذت مذ ذاك تتوطد أكثر فأكثر بفضل مؤسسات مشتركة أخرى، اجتماعية ودينية على السواء، وتتميز أكثر فأكثر عن العشائر الأخرى من القبيلة ذاتها. وسنتحدث عن هذا بمزيد من التفصيل فيما بعد. ولكن إذا وجدنا أن العشيرة تتطور من العائلة البونالوانية، لا بحكم الضرورة وحسب، بل أيضاً بصورة بسيطة بديهية، توفرت لنا الأسباب لكي نعتبر من المؤكد والثابت تقريباً وجود هذا الشكل من العائلة فيما مضى عند جميع الشعوب التي يمكن إيجاد مؤسسات العشيرة عندها أي تقريباً عند جميع الشعوب البربرية والمتمدنة.
عندما كتب مورغان كتابه، كانت معلوماتنا عن الزواج الجماعي لا تزال محدودة جداً. كنا نعرف بعض التفاصيل عن الزواجات الجماعية عند الأوستراليين المنتظمين في طبقات، ناهيك بأن مورغان كان قد نشر في عام 1871 معطيات وصلت إليه عن العائلة البونالوانية الهاوايية (36) . فإن العائلة البونالوانية قد أعطت، من جهة، تفسيراً كاملاً لنظام القرابة السائد عند الهنود الحمر الأميركيين والذي كان بالنسبة لمورغان نقطة انطلاق في جميع أبحاثه، وكانت، من جهة أخرى، نقطة انطلاق جاهزة كان يمكن منها اشتقاق العشيرة المؤسسة على حق الأم، وكانت أخيراً درجة أعلى بكثير في سلم التطور من الطبقات الأوسترالية. ولهذا كان من المفهوم أن يعتبرها مورغان درجة من التطور سبقت بالضرورة الزواج الثنائي وأن ينسب إليها انتشاراً عاماً في الأزمنة السابقة. ومذ ذاك أطلعنا على جملة كاملة من أشكال الزواج الجماعي الأخرى، ونحن نعرف الآن أن مورغان تجاوز الحد هنا كثيراً جداً. ولكن الحظ حالفه مع ذلك ووجد في عائلته البونالوانية الشكل الأعلى، الشكل الكلاسيكي للزواج الجماعي، الشكل الذي يفسر بأبسط نحو، بالانطلاق منه، الانتقال إلى شكل أعلى.
أما الإغناء الجوهري في معلوماتنا عن الزواج الجماعي؟، فنحن مدينون به قبل كل شيء للمرسل البريطاني لوريمير فايسون الذي درس خلال سنوات عديدة هذا الشكل من العائلة في ميدانها الكلاسيكي، أي في أوستراليا (37) . فقد اكتشف درجة التطور الدنيا عند الزنوج الأوستراليين في منطقة ماونت غامبير في أوستراليا الجنوبي. فإن القبيلة كلها هنا مقسومة إلى طبقتين كبيرتين، الكروكي والكوميت. والعلاقات الجنسية في داخل كل من هاتين الطبقتين ممنوعة منعاً باتاً. وكل رجل من إحدى الطبقتين هو، على العكس، منذ الولادة، زوج كل امرأة من الطبقة الأخرى، وهذه المرأة هي زوجته منذ الولادة. فليس الأفراد، بل جماعات كاملة تتزاوج بعضها مع بعض، طبقة مع طبقة. وتجدر الإشارة إلى أن فارق العمر والقرابة بالدم لا يشكلان هنا أبداً عقبة أمام العلاقات الجنسية، ولا يوجد غير القيد الناجم عن الانقسام إلى طبقتين خارجيتي الزواج. إن كل امرأة من الكوميت هي بالنسبة لكل كروكي زوجته حقاً وشرعاً، ولكن بما أن ابنته بالذات بوصفها ابنة امرأة كوميت هي أيضاً من الكوميت بموجب حق الأم، فهي بحكم ذلك منذ الولادة زوجة كل كروكي وبالتالي زوجة والدها. وعلى كل حال، لا يقيم تنظيم الطبقات في الصورة التي نعرفه بها أي عقبة أمام ذلك. إذن، إما أن هذا التنظيم قد نشأ في حقبة لم ير فيها بعد الناس أي أمر رهيب بخاصة في العلاقات الجنسية بين الآباء والأولاد، رغم كل سعيهم الغامض إلى الحد من سفاح القربى، في هذه الحال، ظهر نظام الطبقات مباشرة من حالة العلاقات الجنسية غير المنظمة، وإما أن العلاقات الجنسية بين الآباء والأولاد كانت ممنوعة بحكم العرف والعادة عند نشوء الطبقات الزواجية، وفي هذه الحال، يعود الوضع الحالي إلى وجود عائلة القربى بالدم قبل ذلك، ويشكل أول خطوة للخروج منها. إن الافتراض الأخير أكثر احتمالاً. ولا يذكرون، حسبما أعلم، أمثلة عن علاقات زواج بين الآباء والأولاد في أوستراليا، ناهيك بأن الشكل اللاحق للزواج الخارجي، أي العشيرة القائمة على الحق الأمي، تفترض كذلك، ضمناً، كقادة، منع مثل هذه العلاقات بوصفه واقعاً كان قائماً عند نشوئها.
و فضلاً عن منطقة ماونت –غامبير في أوستراليا الجنوبية، يقوم نظام الطبقتين أيضاً إلى أبعد في اتجاه الشرق، في حوض نهر دارلينغ، وفي الشمال الشرقي، في كوينسلند، وهو بالتالي واسع الانتشار. وهو لا ينفي غير الزواج بين الأخوة والأخوات، بين أولاد الأخوة وبين أولاد الأخوات حسب خط الأم، لأنهم ينتمون إلى طبقة واحدة، أما أولاد الأخت والأخ، ففي مستطاعهم، على العكس، أن يتزاوجوا فيما بينهم. ونجد خطوة أخرى لاحقة لمنع سفاح القربى عند قبلية الكاميلاروي في حوض نهر دارلينغ في ويلس الجنوبية الجديدة، حيث انقسمت الطبقتان الأصليتان إلى أربع، وحيث كل من هذه الطبقات الأربع تتزوج بكليتها مع طبقة أخرى معينة. إن الطبقتين الأوليتين هما منذ الولادة متزوجة إحداهما مع الأخرى، وتبعاً لانتماء الأم إلى الطبقة الأولى أو الثانية منهما، ينتقل أولادها إلى الطبقة الثالثة أو الرابعة. وأولاد الطبقتين الأخيرتين اللتين تربط بينهما أيضاً علاقات الزواج، يدخلون في قوام الطبقتين الأولى والثانية. وهكذا ينتمي دائماً جيل واحد إلى الطبقة الأولى والثانية، وينتمي الجيل التالي إلى الطبقة الثالثة والرابعة، ثم ينتمي الجيل الثالث من جديد إلى الطبقة الأولى والثانية. وتبعاً لذلك، لا يستطيع أولاد الأخ والأخت ( من جهة الأم) أن يكونوا زوجاً وزوجة، ولكن أحفاد الأخ والأخت يستطيعون ذلك. إن هذا النظام المعقد الأصيل يزداد تعقداً بفعل اندساس العشيرة الأمية (العشيرة حسب خط الأم) فيه، وإن، على كل حال، في وقت لاحق. ولكنه لا يسعنا هنا أن نستغرق في بحث هذا الأمر. وهكذا نرى، السعي إلى منع سفاح القربى يتجلى المرة تلو المرة، ولكن بشكل غريزي، عفوي، دون أي إدراك واضح الهدف.
إن الزواج الجماعي الذي لا يزال هنا، في أوستراليا، زواجاً بين طبقتين، زواجاً بالجملة بين طبقة كاملة من الرجال موزعة في كثير من الأحيان في عموم القارة وبين طبقة من النساء موزعة بالقدر نفسه، إن هذا الزواج الجماعي لا يبدو أبداً، حين النظر إليه عن كثب، فظيعاً بالقدر الذي يتصوره خيال التافهين المبتذلين الذي اعتاد على ما يجري في بيوت الدعارة. فلقد مرت، على العكس، سنوات وسنوات قبل أن يخطر في البال مجرد وجوده، فضلاً عن أنهم شرعوا لأمد قريب يجادلون من جديد في وجوده. إن المراقب السطحي يرى فيه زواجاً أحادياً واهي العرى، ويرى في بعض الأنحاء، نظاماً لتعدد الزوجات ترافقه الخيانة الزوجية بين الفينة والفينة. وكان لا بد من تكريس سنوات كاملة، كما فعل فايسون وهاويت، لأجل اكتشاف القانون الذي يضبط علاقات الزواج هذه التي يميل الأوروبي العادي إلى أن يرى في ممارستها شيئاً ما يشبه ما يوجد في وطنه، القانون الذي بموجبه يجد الزنجي الأوسترالي الغريب، على بعد آلاف الكيلومترات عن موطنه الأول، بين أناس يتكلمون لغة يجهلها، بل أحياناً كثيرة في كل مقام، في كل قبيلة، نساء على استعداد للاستسلام له بلا مقاومة وبلا استياء، القانون الذي بموجبه يتنازل الرجل الذي عنده عدة نساء، عن واحدة منهن لأجل ضيفه لقضاء الليل معها. وحيث يرى الأوروبي انعدام الأخلاق والقانون، يسود بالفعل قانون صارم. إن هؤلاء النساء ينتمين إلى طبقة الأجنبي الزواجية، وهن بالتالي زوجاته منذ الولادة. إن القانون الأخلاقي نفسه الذي يعدّهم بعضاً لبعض، يمنع، تحت طائلة العقاب المخزي، كل علاقة جنسية خارج الطبقتين الزواجيتين اللتين تخض إحداهما الأخرى. وحتى حيث يخطفون النساء، وهذا أمر يقع في كثير من الأحيان، وهو قاعدة في كثير نم الأنحاء، يطبق قانون الطبقات الزواجية بكل دقة.
و من جهة أخرى، تتبدى في خطف النساء علائم الانتقال إلى الزواج الأحادي، بشكل الزواج الثنائي على الأقل (بين اثنين): فعندما كان الشاب يخطف فتاة بمساعدة أصدقائه بالقوة أو بالإغراء، فإنهم جميعهم يضاجعونها بالدور، ولكنها بعد ذلك تعتبر زوجة ذلك الشاب الذي كان صاحب فكرة الخطف. وبالعكس، إذا هربت المرأة المخطوفة من زوجها وقبض عليها رجل آخر، فإنها تصبح زوجة هذا الأخير، ويفقد الأول حقه المفضل عليها. وإلى جانب وفي قلب الزواج الجماعي الذي لا يزال قائماً على العموم، تبرز بالتالي علاقات تستبعد الآخرين، يبرز تزاوج، تجامع شخصين (رجل وامرأة) لفترة من الزمن قد تطول أو تقصر، وإلى جانب ذلك، يقوم تعدد الزوجات، وعليه نرى الزواج الجماعي هنا أيضاً بسبيل الزوال، وتنحصر المسألة كلها في معرفة من ذا الذي سيغادر الحلبة قبل غيره تحت تأثير الأوروبيين، الزواج الجماعي أم أتباعه، الزنوج الأوستراليون.
إن الزواج بين طبقات بكاملها بالشكل الذي يسود به في أوستراليا، هو على كل حال شكل منخفض جداً، بدائي من أشكال الزواج الجماعي، بينما العائلة البونالوانية هي، حسبما نعرف، الدرجة العليا في تطوره. ويبدو أن الأول شكل يناسب مستوى التطور الاجتماعي الذي بلغه المتوحشون الرحل، بينما الثاني يفترض وجود مقامات ثابتة نسبياً لمشاعات شيوعية، ويؤدي مباشرة إلى الدرجة التالية العليا من التطور. وبين هذين الشكلين، نجد أيضاً، بلا ريب، بعض الدرجات الوسطية. وهذا ميدان للبحث انفتح أمامنا للتو ويكاد يكون غير مطروق.
[1]. شريكاً. الناشر.
[2]. إن آثار العلاقات الجنسية غير المنظمة المسماة بـ “الحمل الأثيم” (“Sumpfzeugung”) والتي يظن باهوفن (31) أنه هو الذي اكتشفها، تؤدي إلى الزواج الجماعي، وهذا أمر لم يبق من الممكن الآن الشك بصحته. “إذا كان باهوفن يعتبر هذه الزواجات “البونالوانية””غير شرعية”، لاعتبر إنسان من ذلك العصر أغلبية الزواجات في عصرنا بين أبناء وبنات الأعمام والأخوال والعمات والخالات، الأقربين والأبعدين، زواجات زناء وسفاح كالزواجات بين الأخوة والأخوات” (ماركس)(32) (راجع “أرشيف ماركس وإنجلس”، الطبعة الروسية، المجلد 9).
(30). L. H. Morgan. “Ancient Society”. London,1877. (ل. هـ. مورغان. “المجتمع القديم” لندن، 1877).
(31). J.J.Bachofen. “Das Mutterrecht. “. Stuttgart, 1861. (باهوفن. “حق الأم. “. شتوتغارت، 1861).
(32). كارل ماركس. “ملخص كتاب لويس هـ. مورغان “المجتمع القديم””.
(33). يوليوس قيصر. “مذكرات عن حرب الغال”. الكتاب الخامس. الفصول 14-45.
(34). ”The People of India”. Edited by J. F. Watson and J. W. Kaye. Vol. I-VI. London, 1868-1872. (“شعب الهند”. منشورات ج.ف. وطسون وج.د.كاي. المجلدات 1-6. لندن، 1868-1872). هنا يورد إنجلس مقتطفاً من المجلد الثاني من هذه الطبعة.
(35). المقصود هنا طبقات الزواج أو الفروع وهي مجموعات خاصة كانت تنقسم إليها أغلبية القبائل الأسترالية, لم يكن بوسع الرجال في كل مجموعة أن يتزوجوا إلا من نساء مجموعة أخرى معينة. وكان عدد المجموعات في كل قبيلة يتراوح بين 4 و8.
(36). L. H. Morgan “Systems of Consanguinity and Affinity of the HumanFamily”. Washington, 1871. (ل. هـ. مورغان. “أنظمة القرابة بالعصب والمصاهرة في العائلة البشرية”. واشنطن، 1871).
(37). نتائج البحوث التي أجراها فايسون مع هاويت وردت في كتاب L.Fison and A. W. Howitt. “Kamilaroi and Kurnai”. Melbourne, Sydney, Adelaide and Brisbane , 1880. (ل.فايسون وأ. هاويت “كاميلاروي وكورناي”. ملبورن وسيدني وأديلاييد وبريسبان، 1880).