إن مورغان الذي أمضى القسم الأكبر من حياته بين الإيروكوا الذين لا يزالون يعيشون اليوم في ولاية نيويورك، والذي تبنته إحدى قبائلهم (قبيلة سينيكا)، قد اكتشف عندهم نظاماً للقرابة يتناقض مع علاقاتهم العائلية الفعلية. فقد كان يسود عندهم ذلك الزواج الأحادي، الذي يسهل على كل من الطرفين المعنيين حله، والذي يسميه مورغان “العائلة الثنائية”. ولهذا كانت ذرية هذين الزوجين معروفة ومعترف بها من الجميع: فلم يكن من الممكن أن يقوم أي شك فيما يتعلق بالأشخاص الذين ينبغي إطلاق أسماء الأب والأم والابن والابن والأخ والأخت عليهم. ولكن استعمال هذه التعابير في الواقع يناقض هذا الأمر. فإن الإيروكوي لا يسمي أولاده بالذات وحسب بأبنائه وبناته، بل أيضاً أولاد أخوته، وهؤلاء يسمونه بوالدهم. أما أولاد أخواته، فيسميهم بأبناء وبنات أخواته، وهؤلاء يسمونه بخالهم. وعلى العكس تسمي الإيروكوية أولاد أخواتها، مثل أولادها بالذات، بأبنائها وبناتها، وأولاد أخواتها يسمونها بأمهم. أما أولاد أخوتها، فتسميهم بأبناء وبنات أخوتها، وتسمى هي عمة. وأولاد الأخوة يسمون بعضهم بعضاً بالأخوة والأخوات، شأنهم شأن أولاد الأخوات. وعلى العكس، يسمي أولاد المرأة وأولاد أخيها بعضهم بعضاً ” بالأخوة والأخوات من المرتبة الثانية” (أي بأبناء وبنات الخال والعمة) وليست هذه مجرد أسماء لا معنى لها ولا أهمية، بل تعابير عن النظرات القائمة فعلاً إلى القرابة والبعد، وإلى المساواة وعدم المساواة في قرابة الدم، وهذه النظرات تشكل أساس نظام للقرابة موضوع بصورة كاملة، وبوسعه أن يعكس بضع مئات من مختلف علاقات القربى لدى فرد واحد. وفضلاً عن ذلك، لا يسري مفعول هذا النظام كلياً عند جميع الهنود الحمر الأميركيين وحسب ( وحتى الآن لم يظهر أي استثناء له) بل يسود أيضاً بدون تغيير تقريباً عند أقدم سكان الهند، أي عند قبائل ديكان الدرافيدية وقبائل غاوورا في هندوستان. إن أسماء القرابة عند قبائل تاميل في الهند الجنوبية وعند الإيروكوا من قبيلة سينيكا في ولاية نيويورك لا تزال حتى الآن متماثلة فيما يتعلق بأكثر من مائيتين من مختلف علاقات القرابة. وعلاقات القرابة، الناجمة من شكل العائلة القائم، تناقض كذلك نظام القرابة سواء عند هذه القبائل الهندية أم عند جميع الهند الحمر الأميركيين.
فكيف نفسر هذا؟ نظراً للدور الحاسم الذي تضطلع به القرابة في النظام الاجتماعي عند جميع الشعوب المتوحشة والبربرية، لا يمكن بمجرد الجمل إزالة أهمية هذا النظام المنتشر هذا الانتشار الواسع. وأن نظاماً يسود في كل مكان من أميركا ويوجد كذلك في آسيا عند شعوب من عرق آخر تماماً، ويقوم بكثرة بأشكال معدلة إلى هذا الحد أو ذاك في كل مكان من إفريقيا وأوستراليا، إن نظاماً كهذا يتطلب تفسيراً تاريخياً، ولا يمكن التهرب منه بالكلمات، كما حاول أن يفعل ذلك، مثلاً، ماك-لينان (15) . إن أسماء الأب والولد والأخ والأخت، ليست مجرد ألقاب فخرية، بل تستتبع واجبات متبادلة محددة تماماً، وجدية جداً، يشكل مجموعها قسماً جوهرياً من النظام الاجتماعي عند هذه الشعوب. وقد وجد التفسير. ففي جزر السندويتش (هاواي)، كان لا يزال يوجد في النصف الأول من القرن الحالي، القرن التاسع عشر، شكل للعائلة يقوم فيه آباء وأمهات وأخوة وأخوات وأبناء وبنات وأخوال وخالات وأعمام وعمات وأبناء وبنات أخ أو أخت كالذين يقتضيهم نظام القرابة في أميركا وفي الهند القديمة. ولكن، يا للغرابة! فإن نظام القرابة الساري المفعول في جزر هاواي لم يكن يتطابق هو أيضاً مع شكل العائلة الموجودة هناك فعلاً. فالواقع أن جميع أولاد الأخوة والأخوات بلا استثناء يعتبرون هناك أخوة وأخوات وأولاد مشتركين لا لأمهم وأخواتها وحسب أو لوالدهم وأخوته، بل أيضاً لجميع أخوة وأخوات والديهم بلا تمييز. ولذا، إذا كان نظام القرابة الأميركي يفترض شكلاً للعائلة أكثر بدائية لم يعد له وجود في أميركا ولا نزال نجده بالفعل في جزر هاواي، فإن نظام القرابة الهاوايي يشير، من جهة أخرى، إلى شكل للعائلة أقدم عهداً من ذاك، لم يعد بإمكاننا في الوقت الحاضر، والحق يقال، أن نجده في أي مكان، ولكنه كان من كل بد موجوداً وإلا لما كان من الممكن أن ينشأ نظام القرابة المناسب.
يقول مورغان:
“إن العائلة عنصر نشيط، فعال. فهي لا تبقى أبداً كما هي عليه بدون أي تغيير، بل تنتقل من شكل أدنى إلى شكل أعلى بقدر ما يتطور المجتمع من درجة دنيا إلى درجة عليا. أما أنظمة القرابة، فهي، على العكس، خاملة، غير نشيطة. وهي لا تسجل، إلا بعد مرور حقبات طويلة من الزمن، ذلك التقدم الذي تحققه العائلة في خلال هذه الحقبات، ولا تطرأ عليها أي تغيرات جذرية إلا عندما تكون العائلة قد تغيرت بصورة جذرية” (16) .
و يضيف ماركس قائلاً:
“كذلك هي الحال بالضبط فيما يتعلق بالأنظمة السياسية والحقوقية والدينية الفلسفية على العموم”(17) .
فبينا العائلة تواصل تطورها، يتحجر نظام القرابة، وبينا هذا الأخير يظل قائماً بحكم العادة، تتجاوز العائلة حدوده. ولكن بنفس اليقين الذي استطاع كوفيه أن يستنتج به من عظام جرابية الشكل لهيكل حيوان وجدها في ضواحي باريس بأن هذا الهيكل هو هيكل حيوان جرابي وبأنه كانت تعيش هناك فيما مضى حيوانات جرابية انقرضت بعد ذاك،بنفس هذا اليقين نستطيع نحن أن نستنتج من نظام القرابة الذي وصل إلينا عبر التاريخ، أنه كان يوجد شكل للعائلة زال اليوم من الوجود وكان مناسباً له.
إن أنظمة القرابة وأشكال العائلة، التي ذكرناها آنفاً، تختلف عن الأنظمة والأشكال السائدة حالاً بوجود عدة آباء وأمهات للولد الواحد. فبموجب نظام القرابة الأميركي الذي تناسبه العائلة الهاوايية، لا يمكن للأخ والأخت أن يكونا والد وأم الولد نفسه. ولكن نظام القرابة الهاوايي يفترض عائلة كان فيها ذلك، بالعكس، هو القاعدة. وهنا نواجه جملة من أشكال العائلة تناقض مباشرة الأشكال التي كانت تعتبر عادة حتى الآن الأشكال الوحيدة. إن المفهوم التقليدي لا يعرف غير الزواج الأحادي، إلى جانبه تعدد زوجات الرجل، وبالإضافة إليه عند اللزوم، تعدد أزواج المرأة، ولكنه، فضلاً عن ذلك، يلزم الصمت، كما يليق بالتافه الضيق الأفق الواعظ، حول أن الممارسة تتعدى الحدود التي يرسمها المجتمع الرسمي، وتتعداها خلسة، ولكن بدون تكلف. وعلى العكس، تبين لنا دراسة التاريخ البدائي ظروفاً يعيش فيها الرجال في حالة تعدد الزوجات وتعيش فيها زوجاتهن في الوقت نفسه في حالة تعدد الأزواج، ويعتبر فيها، لهذا السبب، أولاد هؤلاء وأولئك أولاداً مشتركين لهم جميعهم، ظروفاً طرأت عليها بدورها سلسلة كاملة من التغيرات قبل أن تندمج نهائياً في الزواج الأحادي. وهذه التغيرات هي على نحو بحيث أن الحلقة التي تشملها عرى الزواج المشتركة، والتي كانت في البدء واسعة جداً، أخذت تتقلص أكثر فأكثر إلى حد أنه لم يبق، في آخر المطاف، غير الزوج المتميز الذي يهيمن في الوقت الحاضر.
إن مورغان، وقد بعث على هذا النحو تاريخ العائلة بتسلسل معكوس، يخلص إلى القول، بالاتفاق مع غالبية زملائه، بأنه كان
يوجد وضع بدائي كانت فيه العلاقات الجنسية غير المحدودة تسود داخل القبيلة بحيث إن كل امرأة كانت تخص كل رجل وبحيث
إن كل رجل كان يخص كل امرأة. ومنذ القرن الماضي، أخذوا يتحدثون عن هذا الوضع البدائي، ولكنهم كانوا يكتفون بالجمل
والتعابير العامة، إلا أن باهوفن وحده- وهنا تقوم إحدى مآثره الكبيرة- نظر إلى هذه المسألة نظرة جدية وشرع يبحث عن
آثار هذا الوضع في الحكايات التاريخية والدينية (18)
. ونحن نعرف الآن أن هذه الآثار التي وجدها لا تعود بنا البتة
إلى طور اجتماعي من علاقات جنسية غير منظمة، بل إلى شكل ظهر بعد ذلك بوقت كبير، إلى الزواج الجماعي. أما الطور
الاجتماعي البدائي المنوه به هنا، هذا إذا كان قد وجد فعلاً، فإنه يعود إلى عهد بعيد عنا إلى حد أنه يستحيل علينا
تقريباً أن تأمل بأننا سنجد بين الدفائن الاجتماعية، وبين المتوحشين المتخلفين، براهين مباشرة على وجوده فيما مضى.
ومأثرة باهوفن تتلخص على وجه الضبط في كونه طرح بحث هذه المسألة في المرتبة الأولى*[1]
و في الآونة الأخيرة، أصبح
من الدارج إنكار هذا الأطوار الأولية من حياة الناس الجنسية. فالمقصود إنقاذ البشرية من هذا “العار”.
ولهذا الغرض، لا يستشهدون بعدم وجود أي برهان مباشر وحسب، بل يركزون أيضاً بوجه خاص على مثال بقية العالم الحيواني،
وفي هذا الميدان، جمع ليتورنو (“تطور الزواج والعائلة”، 1888) (19)
وقائع كثيرة تبين أن العلاقات
الجنسية غير المنظمة إطلاقاً تلازم، هنا أيضاً، درجة دنيا من التطور. ولكن كل ما أستطيع استخلاصه من هذه الوقائع، هو
أنها لا تثبت أي شيء على الإطلاق فيما يخص الإنسان وظروف حياته البدائية. فإن المساكنة الزوجية الطويلة الأمد عند
الفقاريات تفسرها بصورة كافية الأسباب الفيزيولوجية: فعند الطيور، مثلاً، تفسرها حاجة الأنثى إلى المساعدة والحماية
في مرحلة حضانة البيض والأفراخ، وأن أمثلة على متانة أحادية الزواج عند الطيور لا تثبت شيئاً فيا يتعلق بالناس لأن
الناس لا يتحدرون من الطيور. وإذا كانت أحادية الزواج الصرف ذروة كل فضيلة، فإن قصب السبق في هذا لمجال يعود عن حق
واستحقاق إلى الدودة الشريطية التي يوجد في كل من عقدها أو مفاصلها الـ 50 إلى 200، جهاز تناسلي كامل للذكر والأنثى،
والتي تقضي حياتها كلها في مضاجعة نفسها بنفسها في كل من عقدها هذه. أما إذا اقتصرنا على الضرعيات، فإننا نجد عندها
جميع أشكال الحياة الجنسية: العلاقات غير المنظمة، وأشكالاً مماثلة للزواج الجماعي، وتعدد الزوجات، والزواج الأحادي،
ولا ينقص غير تعدد الأزواج، الذي لم يستطع أن يبلغه غير البشر. وحتى عند أقرب أقربائنا القرود، يظهر تجمع الذكور
والإناث بجميع الأشكال الممكنة، وإذا أخذنا نطاقاً أضيق، وإذا لم نأخذ بالحسبان غير الأنواع الأربعة من القرود
الشبيهة بالإنسان، فإن كل ما يستطيع ليتورنو أن يقوله لنا في هذا الصدد، هو أننا نجد عندها أحادية الزواج تارة
وطوراً تعدد الزوجات، في حين أن سوسور يؤكد، بالاستناد إلى جيرو-طولون، أنها أحادية الزواج. ثم أن تأكيدات فسترمارك
الحديثة (“تاريخ الزواج البشري”، لندن، 1891)(20)
حول أحادية الزواج (21)
عند القرود الشبيهة بالإنسان
هي أيضاً أبعد من أن تشكل برهاناً وبكلمة، إن المعطيات المتوفرة لعلى نحو بحيث أن الفاضل والنزيه ليتورنو يعترف
بأنه:
“لا توجد أبداً، مع ذلك، عند الضرعيات، مطابقة دقيقة بين درجة التطور العقلي وشكل العلاقات
الجنسية”(22)
.
أما إيسبيناس (“في المجتمعات الحيوانية”، 1877) فيقول صراحة:
“القطيع هو أعلى جماعة اجتماعية يمكننا أن نراقبها عند الحيوانات. وهي تتألف، على ما يبدو، من عائلات، ولكن العائلة والقطيع في تناحر منذ بادئ بدء، وكل منهما يتطور باتجاه معاكس لتطور الآخر”(23) .
و هكذا، كما يتبين مما قيل أعلاه، نحن لا نعرف تقريباً أي شيء دقيق عن الجماعات العائلية وغيرها من المجموعات العائشة معاً من القرود الشبيهة بالإنسان، والمعطيات المتوافرة يناقض بعضها بعضاً تماماً. ولا غرابة. فما أشد التناقض حتى بين المعطيات المتوافرة لنا عن القبائل البشرية في طور الوحشية وما أكثر ما تحتاج إلى التحليل والدراسة والغربلة بعين نقادة! والحال، أن مراقبة مجتمعات القرود أصعب بكثير من مراقبة المجتمعات البشرية. ولذا ينبغي لنا أن ننبذ كل استنتاج مستخلص من هذه المعطيات المشكوك فيها إطلاقاً، طالما لم نحصل على معطيات أوضح وأوسع.
أما فكرة إيسبيناس التي استشهدنا بها آنفاً، فإنها، على العكس، تعطينا نقطة ارتكاز أمتن. فإن القطيع والعائلة عند الحيوانات العليا لا يكملان بعضهما بعضاً، بل يناقض بعضهما بعضاً. ويبين إيسبيناس جيداً جداً كيف تضعف غيرة الذكور، أثناء فترة الهيجان، لحمة القطيع أو تقضي عليها مؤقتاً. “حيث العائلة وثيقة اللحمة، لا يتشكل القطيع إلا بصورة استثنائية جداً. ولكن القطيع يتشكل، على العكس، من تلقاء نفسه تقريباً حيث تسود إما المجامعة الجنسية الحرة وإما تعدد الأزواج… ولكي يتشكل القطيع، كان لا بد أن تضعف الروابط العائلية وأن يستعيد الفرد حريته. ولهذا نادراً جداً ما نرى أسراباً منظمة عند الطيور… أما عند الضرعيات، فإننا نجد، على العكس، مجتمعات منظمة إلى درجة ما، وذلك على وجه الضبط لأن الفرد هنا لا تبتلعه العائلة… ولهذا لا يمكن أن يجابه الشعور بجماعية القطيع لدن نشوئه عدواً أكبر من الشعور بجماعية العائلة. ونقول صراحة: إذا كان قد قام وتطور شكل اجتماعي أعلى من العائلة، فإن ذلك لم يحدث إلا لأن هذا الشكل قد أذاب في داخله العائلات التي طرأت عليها تغيرات جذرية، مع العلم أنه ليس من المستبعد أن يكون ذلك على وجه الضبط ما أتاح فيما بعد للعائلات أن تتشكل من جديد في ظروف أكثر ملائمة إلى ما لا حد له”. (إيسبيناس. المرجع المذكور. فقرة أوردها جيرو –طولون في مؤلفه “أصل الزواج والعائلة”، عام 1884).
و من هنا نرى أن للمجتمعات الحيوانية قيمة ما بالنسبة للاستنتاجات التي يجب استخلاصها منها بصدد المجتمعات البشرية، ولكن هذه القيمة سلبية فقط. فعند الفقاريات العليا، حسبما نعرف، لا يوجد غير شكلين من العائلة: تعدد الزوجات، والمعايشة أزواجاً منفردة، وكل من الشكلين لا يجيز سوى ذكر راشد واحد، سوى زوج واحد. إن غيرة الذكر التي تشد عرى العائلة الحيوانية وتحدها في آن واحد تجعل العائلة مضادة للقطيع. وإذا القطيع، هو شكل أعلى للمعاشرة، يزول أحياناً بسبب هذه الغيرة وأحياناً يفقد لحمته أو ينحل أثناء فترة اليهجان، أو يتوقف تطوره، في أفضل الأحوال. وهذا وحده يكفي لتقديم البرهان على أن العائلة الحيوانية والمجتمع البشري البدائي شيئان لا يتفقان، وأن الناس البدائيين الذين تخلصوا من الحالة الحيوانية (بفضل العمل)، إما أنهم لم يعرفوا العائلة على الإطلاق وإما أنهم، في أفضل الأحوال، عرفوا عائلة غير موجودة عند الحيوانات. فإن الحيوان غير المسلح، كما كان عليه الإنسان بسبيل التكون، كان بوسعه، أغلب الظن، أن يبقى بعدد غير كبير حتى في حالة العزلة التي كان أعلى شكل للمعاشرة فيها هو شكل المعايشة أزواجاً كالذي تعيش فيه، على حد قول فسترمارك بالاستناد إلى حكايات لصيادين، قرود الغوريللا والشمبانزي. ولكن لأجل الخروج في سياق التطور من الحالة الحيوانية لأجل تحقيق التقدم الأكبر الذي تعرفه الطبيعة، كان لا بد من عنصر آخر: كان ينبغي إحلال قوة القطيع الموحدة وأعماله الجماعية محل نقص قدرة الفرد على الدفاع. وأنه ليستحيل إعطاء تفسير للانتقال من هذه الظروف التي تعيش فيها حالياً القرود الشبيهة بالإنسان إلى الحالة البشرية. فإن هذه القرود تظهر بالأحرى بمظهر خطوط جانبية منحرفة محكوم عليها بالاندثار تدرجياً وبسبيل الانحطاط والزوال على كل حال. وهذا وحده يكفي للامتناع عن إجراء أي مقارنات بين أشكل العائلة عندها وعند الإنسان البدائي. ذلك أن التساهل المتبادل بين الذكور الراشدين وانعدام الغيرة كانا الشرط الأول لنشوء جماعات أكثر اتساعاً وأطول عمراً لم يكن من الممكن أن يتحقق تحول الحيوان إلى إنسان إلا في وسطها. وبالفعل، أي شيء نجده بوصفه أقدم وأبكر شكل للعائلة، بوصفه الشكل الذي نقدم الدليل المفحم على وجوده في التاريخ والذي يمكننا أن ندسه في الوقت الحاضر أيضاً هنا وهناك؟ الزواج جماعات جماعات (الزواج الجماعي)، شكل الزواج الذي كانت بموجبه جماعات كاملة من الرجال وجماعات كاملة من النساء تخص بعضها بعضاً بصورة متبادلة والذين كان يترك مجالاً صغيراً جداً للغيرة. وفيما بعد، في درجة لاحقة من التطور، نجد شكلاً استثنائياً كما هو عليه شكل تعدد الأزواج الرجال الذي يناقض، تناقضاً صارخاً، بالتأكيد، كل شعور بالغيرة، والذي هو بالتالي غير معروف عند الحيوانات. ولكن الأشكال التي نعرفها من الزواج الجماعي تقترن بشروط متشابكة ومعقدة إلى حد أنها تشير بالضرورة إلى أشكال للمعاشرة الجنسية أبكر عهداً وأكثر بساطة، وتشير في الوقت نفسه، في آخر المطاف، إلى مرحلة من العلاقات الجنسية غير المنظمة تناسب الانتقال من الحالة الحيوانية إلى الحالة البشرية، ولهذا تعود بنا الاستشهادات بأشكال الزواج عند الحيوانات إلى نفس النقطة التي كان يجب أن تبعدنا عنها مرة واحدة وإلى الأبد.
فماذا يعني تعبير: العلاقات الجنسية غير المنظمة؟ إنه يعني إن القيود المانعة السارية المفعول في زمننا أو في زمن أسبق لم تكن سارية المفعول آنذاك. وقد سبق لنا ورأينا سقوط القيد الذي تشترطه الغيرة. ومن الثابت أن الغيرة شعور تطور في مرحلة لاحقة نسبياً. ويمكن قول الشيء نفسه بصدد مفهوم سفاح القربى. فإن الأخ والأخت كانا في المرحلة البدائية زوجاً وزوجة، وليس هذا وحسب، بل أن شعوباً كثيرة لا تزال في الوقت الحاضر تجيز العلاقة الجنسية بين الآباء والأولاد. ويشهد بانكروفت (“العروق الأصلية في ساحل المحيط الهادئ من أميركا الشمالية”، عام 1875، المجلد الأول (24) ) على وجود مثل هذه العلاقات عند الكافياك المقيمين عند سواحل مضيق بيرينغ وعند سكان جزيرة كادياك في جوار ألاسكا وعند التينّه المقيمين في القسم الداخلي من أميركا الشمالية البريطانية، ويعطي ليتورنو موجزاً لمثل هذه الوقائع عند الهنود الحمر الشيبيوي وعند الكوكوس في التشيلي، وعند الكاراييب وعند الكارين في شبه جزيرة الهند الصينية، هذا بالإضافة إلى حكايات قدماء اليونانيين والرومانيين عن البارثيين والفرس والسقيتيين والهون وغيرهم. وقبل اكتشاف سفاح القربى (و هذا اكتشاف حقاً وفعلاً، بل هو اكتشاف فائق القيمة)، لم يكن من المكن أن تثير العلاقة الجنسية بين الآباء والأولاد نفوراً أكبر من ذاك الذي تثيره العلاقة الجنسية بين أشخاص آخرين ينتمون إلى أجيال مختلفة، والحال، لا يزال يحدث هذا الآن في أكثر البلدان تفاهة وابتذالاً دون أن يثير شديد الاشمئزاز، فحتى “الآنسات” العوانس ممن تجاوزن الستين من العمر يتزوجن أحياناً، إذا كن غنيات، من شبان في الثلاثين من العمر. أما إذا طرحنا عن أبكر أشكال العائلة، التي نعرفها، مفاهيم سفاح القربى المقرونة بها – وهي مفاهيم تختلف تماماً عن مفاهيمنا، وتناقضها كلياً أحياناً كثيرة- لوجدنا شكلاً من العلاقات الجنسية لا يمكن نعته إلا بأنه غير منظم. غير منظم، لأن القيود التي فرضها العرف والعادة فيما بعد لم تكن قد ظهرت بعد. ولكنه لا ينجم أبداً من هنا أن التشوش التام في ممارسة هذه العلاقات يومياً كان أمراً محتماً. فإن المعايشة المؤقتة بين بعض الأزواج لم تكن أبداً مستبعدة إذ أن حالاتها غدت الآن أغلبية الحالات حتى في ظل الزواج الجماعي. وإذا كان فسترمارك، وهو أحدث البحاثة الذين ينكرون مثل هذا الوضع البدائي، ينعت بالزواج كل حالة يبقى فيها الجنسان (الرجل والمرأة ) متحدين في مساكنة زوجية حتى ولادة نسل منهما، فإنه ينبغي القول أنه كان من الممكن أن يقوم مثل هذا النوع من الزواج في ظل العلاقات الجنسية غير المنظمة، دون أن يناقض أبداً حالة انعدام التنظيم، أي حالة انعدام القيود التي يفرضها العرف والعادة على العلاقات الجنسية. صحيح أن فسترمارك ينطلق من النظرة القائلة أن:
“انعدام التنظيم يفترض خنق الميول الفردية”، ولذلك “كان البغاء (25) أصح أشكاله”.
أما أنا، فيخيل إلي، على العكس، أنه يستحيل فهم الظروف البدائية طالما ينظرون إليها حسب مفهوم بيوت الدعارة. وسنعود إلى هذه المسألة عند دراسة الزواج الجماعي.
(15). استخدم إنجلس، عند إعداد الطبعة الأولى من مؤلفه، كتابي ماك-لينان التاليين: “Primitive Marriage. An Inquiry into the Origin of the Form of Capturein Marriage Ceremonies” Edinburgh, 1865; “Studies in Ancient History comprisinga Reprint of “Primitive Marriage. An Inquiry into the Origin of the Form ofCapture in Marriage Ceremonies””. London; 1876 وفيما بعد، أخذ إنجلس كذلك بالحسبان، عند إعداد الطبعة الرابعة من كتابه (عام 1891)، الطبعة الجديدة لكتاب ماك- لينان الأخير الصادرة في لندن ونيويورك عام 1886.
(16). L. H. Morgan. “Ancient Society”. London,1877. (ل. هـ. مورغان. “المجتمع القديم” لندن، 1877).
(17). كارل ماركس. “ملخص كتاب لويس هـ. مورغان “المجتمع القديم””.
(18).المقصود هنا كتاب J.J.Bachofen. "Das Mutterrecht.Eine Untersuchung über die Gynaikokratie der alten Welt nach ihrer religiösen und rechtlichen Natur". Stuttgart, 1861. (باهوفن. "حق الأم. بحث في حكم النساء في العالم القديم على أساس طبيعته الدينية و الحقوقية". شتوتغارت، 1861).
(19). Ch. Letourneau. “L’évolution du mariage et de lafamille”. Paris, 1888 (ش. ليتورنو. “تطور الزواج والعائلة”. باريس، 1888).
(20). E.Westermarck. “The History of Human Marriage”. London and NewYork 1891. (فستر مارك. “تاريخ الزواج البشري” لندن ونيويورك، 1891).
(21). رأي سوسور هذا ورد في كتاب. A. Girard- Teulon. “Les origines du mariage et de lafamille” Genève, Paris, 1884. (جيرو-تولون. “أصل الزواج والعائلة”. جينيف وباريس 1884.
(22). Ch. Letourneau. “L’évolution du mariage et de la famille”. Paris, 1888 (ش. ليتورنو. “تطور الزواج والعائلة”. باريس، 1888).
(23). A.Espinas. “Dessociétés animales”. Paris, 1877 ( أ. إيسبيناس. “في المجتمعات الحيوانية” باريس، 1877 ). يستشهد إنجلس بإيسبيناس نقلاً عن الصفحة 518 من كتاب جيرو طولون (الملاحظة رقم 20) الذي ورد فيه مقطع من هذا البحث كملحق.
(24). H.H. Bancroft. “The NativeRaces of the Pacific States of North America” Vol I-V, New York, 1875. (هـ. هـ. بانكروفت. “العروق الأصلية في ساحل المحيط الهادي من أميركا الشمالية” المجلدات1-5، نيويورك، 1875).
(25). E.Westermarck. “The History of Human Marriage”. Londonand New York 1891. (فستر مارك. “تاريخ الزواج البشري” لندن ونيويورك، 1891).
[1]. لقد بين باهوفن، بتسميته هذا الوضع البدائي بـ “الهيتيرية” أنه قلما فهم ما اكتشفه هو نفسه، أو بالأصح، ما حزره. فإن اليونانيين كانوا يقصدون بـ “الهيتيرية” عندما استنبطوا هذا التعبير، العلاقات بين الرجال، العازبون منهم والعائشون في زواج أحادي، وبين نساء غير متزوجات، إن هذا التعبير يفترض دائماً وجود شكل معين للزواج تقوم خارجه العلاقات المنوه بها، ويفترض وجود البغاء، على الأقل بوصفه أمراً ممكناً. ثم أن هذا التعبير لم يستعمل أبداً بمعنى آخر، وبهذا المعنى أستعمله أنا ويستعمله مورغان. إن باهوفن قد أضفى على اكتشافاته الفائقة الأهمية هالة من الصوفية جعلتها غير معقولة لأنه يتصور بأن مصدر العلاقات التي نشأت بين الرجل والمرأة خلال التاريخ إنما كانته على الدوام تصورات الناس الدينية، وليس ظروف حياتهم الفعلية.