كتبها فريدريك انجلز سنة 1876
صدر أول مرة في مجلة
«Neue Zeit» «نوي زايت» عام 1896
إعداد رقمي: علي بطحة (ديسمبر 2022)
العمل، كما يقول علماء الاقتصاد السياسي، مصدر كل ثروة. وهو كذلك فعلاً مع الطبيعة التي تقدم له المادة التي يحولها إلى ثروة. ولكنه أيضاً أكبر من ذلك بما لا حدّ له. إنه الشرط الأساسي الأول لكل حياة إنسانية، وهو كذلك إلى درجة أنه يترتب علينا أن نقول بمعنى ما، أن العمل قد خلق الإنسان بالذات.
منذ عدة مئات الآلاف من السنين، في حقبة لا يزال يستحيل تحديدها بدقة، في حقبة من هذا العهد من تطور الأرض الذي يسميه الجيولوجيون العهد التكويني الثالث، ومن المحتمل في نهايته، كان يعيش في مكان ما من المنطقة الاستوائية ـ وأغلب الظن في قارة شاسعة تغمرها اليوم مياه المحيط الهندي ـ جنس من القرود أشبه ما يكون إلى الإنسان وبلغت درجة عالية جداً من التطور. وقد أعطانا داروين(1) وصفاً تقريبياًِ عن هذه القرود التي كانت أجدادنا. فقد كان الشعر يكسو جلدها بكليته ولها لحى وآذانها مقرّنة، وكانت تعيش عصابات على الأشجار(2).
وبتأثير من نمط حياتها الذي يتطلب أن تقوم الأيدي عند التسلق بوظائف غير وظائف الأرجل ـ وأغلب الظن أن هذا السبب هو السبب الأول ـ شرعت هذه القرود تفقد عادة الاعتماد على أيديها للمشي على الأرض واتخذت أكثر فأكثر مشية عمودية. وهكذا تمت الخطوة الحاسمة للانتقال من القرد إلى الإنسان.
إن جميع القرود التي هي أشبه من يكون إلى والتي لا تزال تعيش في أيامنا، تستطيع الوقوف باستقامة والتنقل على رجليها فقط، ولكنها لا تفعل هذا إلا عند أمسّ الاقتضاء وبأقصى الخراقة. أما مشيتها الطبيعية فتجري بوضع نصف ع مودي وتقتضي استعمال الأيدي. ومعظم هذه القرود، عند المشي، تسند على الأرض السلاميات المتوسطة من أصابع يديها المطوية وتطوي رجليها إلى جسمها وتدفع بجسمها إلى الأمام بين يديها الطويلتين كمشلول يمشي على عكازتين. ولا يزال بوسعنا اليوم على وجه العموم أن نلاحظ عند القرود جميع مراحل الانتقال من المشي على القوائم الأربع إلى المشي على الرجلين. ولكن هذه الطريقة الأخيرة في المشي لم تتجاوز قط عند أي منها مستوى وسيلة اضطرارية تستعمل عند أمس الحاجة.
وإذا كان المشي العمودي قد كتب له أن يغدو عند أجدادنا الشعريين القاعدة أولاً وضرورة ثانياً، فهذا يفترض أنه كان على الأيدي في ذلك الوقت أن تقوم أكثر فأكثر بنشاطات من أنواع أخرى. وحتى عند القرود يوجد نوع من تقسيم العمل بين الأيدي والأرجل. فاليد، كما قلنا، تستعمل عند التسلق على غير ما تستعمل الرجل. فاليد تستعمل في الغالب للقطف ولمسك الغذاء كما يفعل بعض الضرعيات الدنيا بقوائمها الأمامية. وبعض من القرود تستعمل اليد لبناء الأوكار في الأشجار، أو حتى كما يفعل الشيمبانزه، لبناء السطوح بين الأغصان وقاية من سوء الطقس. وباليد تمسك القضبان للدفاع عن أنفسها ضد الأعداء أو ترجمهم بالأثمار والحجارة. وباليد تقوم في الأسر ببعض العمليات البسيطة التي تقلّد بها الإنسان. ولكن، هنا على وجه الضبط، يبدو كل الفرق بين يد القرد غير المتطورة، وحتى وإن كان أكثر القرود شبهاً بالإنسان، وبين يد الإنسان التي رفعها العمل طوال آلاف القرون إلى درجة عالية من الإتقان. إن عدد العظام والعضلات وترتيبها العام متماثلان عند يد القرد ويد الإنسان، ولكن يد الإنسان المتوحش البدائي الأول تستطيع القيام بمئات من العمليات لا تستطيع أبداً يد أي قرد أن تقلدها. فإن يد القرد، أي قرد. لم تصنع قط في يوم من الأيام أي سكين حجرية، وإن غاية في الفظاظة.
ولذا فإن العمليات التي تعلّم أحدادنا خلال آلاف السنين تكييف يدهم لها شيئاً فشيئاً في مرحلة الانتقال من القرد إلى الإنسان، لم تكن في البدء إلا عمليات غاية في البساطة. إن أدنى المتوحشين، حتى أولئك الذين يمكن الافتراض أنهم انحطوا إلى حالة قريبة جداً من حالة الحيوان وانقرضوا جسدياً في نفس الوقت إنما مستواهم ظل أرفع بكثير من مستوى هذه المخلوقات الانتقالية. فقبل أن تصنع يد الإنسان من الحجر أو سكين، انقضت، حسب كل احتمال، حقبة طويلة جداً بحيث تبدو إزاءها المرحلة التاريخية التي نعرفها ، شيئاً تافهاً لا وزن له. ولكن الخطوة الحاسمة كانت قد تمت: إن يد الإنسان قد تحررت وغدا بوسعها مذ ذاك أن تكتسب أكثر فأكثر مهارات جديدة، والمرونة المتنامية على هذا النحو انتقلت بالوراثة وازدادت جيلاً إثر جيل.
وهكذا فإن اليد ليست أداة العمل وحسب، وإنما هي أيضاً نتاج العمل. فبفضل العمل فقط، بفضل التكيّف لعمليات جديدة أبداً، بفضل التطور الخاص الذي اكتسبته العضلات وربط العظام على هذا النحو، وكذلك العظام ذاتها على فترات أطول، بفضل توارث هذا التطور، وأخيراً، بفضل تطبيق هذه الإتقانات المنتقلة بالوراثة تطبيقاً يتجدد بلا انقطاع على عمليات جديدة تزداد تعقداً على الدوام ـ بفضل ذلك كله، بلغت يد الإنسان هذه الدرجة العليا من الإتقان التي تستطيع فيها أن تفجر، كقوة ساحرة، عجائب لوحات رفائيل(3)وتماثيل تورفالدسن(4) وموسيقى باغانيني(5).
ولكن اليد لم تكن منعزلة. إنما كانت مجرد عضو من أعضاء جهاز عضوي غاية في التعقيد. وما كان يفيد اليد، كان يفيد الجسم كله الذي كانت تعمل في خدمته ـ وذلك بطريقتين.
الطريقة الأولى: بموجب قانون تناسب النمو كما أسماه داروين. فإن أشكالاً معينة لشتى أجزاء كائن عضوي هي، حسب هذا القانون، مرتبطة دائماً بأشكال معينة لأجزاء أخرى، يظهر أن ليس لها أية رابطة بالأجزاء الأولى. فمثلاً، أن جميع الحيوانات بلا استثناء، التي لها كريات حمراء بدون نواة خلوية والتي يرتبط قذالها بالفقرة الأولى من العمود الفقري بواسطة مفصل مزدوج، إنما لها أيضاً بلا استثناء غدد ضرعية لإرضاع صغارها. فعند الضرعيات مثلاً نرى أن الأظلاف تلتقي بانتظام مع المعدة المعقدة التي تلاءم عمليات الاجترار. إن تعديل أشكال معينة يؤدي إلى تغير أشكال أجزاء أخرى من الجسم وإن لم يكن بإمكاننا تفسير هذا الترابط. فالقطط البيضاء الناصعة ذات العيون الزرقاء هي دائماً، أو تكاد تكون دائماً، طرشاء. إن تحسين يد الإنسان تدريجياً وتطور وتكيف الرجل في آن واحد للمشي العمودي قد كان لها بدورها بكل تأكيد، وكذلك بموجب قانون تناسب النمو أيضاً، رد فعل في أجزاء أخرى من الجهاز العضوي، غير أن هذا التأثير ما تزال دراسته ضعيفة جداً فلا يمكن لنا بالتالي أن نفعل هنا غير أن نشير إليه إشارة عامة.
ولكن ما هو أهم بكثير إنما هو رد الفعل المباشر، الذي يمكن إثباته، لتطور اليد على باقي الجهاز العضوي. فإن أجدادنا أشباه القرود كما سبق وقلنا كانوا حيوانات اجتماعية، ومن البديهي تماماً أنه يستحيل علينا القول أن الإنسان، وهو أوفر الحيوانات نزعة اجتماعية، يتحدر من سلف مباشر، غير اجتماعي. إن السيطرة على الطبيعة، إن هذه السيطرة التي بدأت مع تطور اليد، مع العمل، قد وسعت أفق الإنسان لدى كل خطوة إلى الأمام. فقد كان يكتشف على الدوام، في أشياء الطبيعة، خصائص جديدة لم يكن يعرفها سابقاً. ومن جهة أخرى، أسهم تطور العمل، بالضرورة، في تمتين الصلات بين أعضاء المجتمع أوثق فأوثق بإكثاره حالات العون المتبادل والنشاط المشترك، وبتوضيحه أكثر فأكثر إدراك فائدة هذا النشاط المشترك لكل قرد. وبكلمة موجزة، توصل الناس بسبيل التكون إلى نقطة ظهرت فيها عندهم الحاجة إلى أن يقول أحدهم للآخر شيئاً ما. فخلقت الحاجة لنفسها عضوها، وبفضل التلحين تحولت حنجرة القرد غير المتطورة، تحولت ببطء ولكن بتأكيد، لكي تتكيف لتلحين ما ينفك في تطور، وتعلمت أعضاء الفم شيئاً فشيئاً أن تلفظ أصواتاً بيّنة واحداً بعد آخر، أن تنطق(6).
إن المقارنة مع الحيوانات تثبت بالبرهان أن هذا التفسير لمنشأ الكلام الذي ولد من العمل ورافقه، هو التفسير الوحيد الصحيح. ذلك أن ما تحتاج الحيوانات حتى أكثرها تطوراً إلى إبلاغه بعضها بعضاً، زهيد، وتستطيع إبلاغه دون اللجوء إلى الكلام، إلى اللفظ البَيّن، إلى النطق. وما من حيوان في الطبيعة يشعر بأي نقص لكونه لا يستطيع أن يتكلم أو يفهم لغة الإنسان. ولكن الأمر على خلاف ذلك حين يروضه الإنسان. ففي العلاقات مع الناس، اكتسب الكلب والحصان أذناً سريعة الحس للنطق حتى أن بوسعهما أن يتعلما بسهولة فهم كل لغة ضمن حدود حقل تصورهما. وقد اكتسبا فضلاً عن ذلك القدرة على الشعور مثلاً بالتعلق بالإنسان. بالإمتنان، الخ… أي مشاعر كانت غريبة عنهما فيما مضى. وكل من كانت له شؤون كثيرة مع هذين الحيوانين يصعب عليه أن يتملص من الاقتناع بأنه يوجد ما يكفي من الحالات التي يشعران فيها الآن بأن عجزهما عن النطق بمثابة نقص يستحيل مع الأسف، علاجه نظراً لتخصص أعضائهما الصوتية تخصصاً كبيراً جداً في ناحية معينة. ولكن حيث يوجد العضو المناسب يمكن أن يزول هذا العجز أيضاً ضمن بعض الحدود. ويقيناً أن الأعضاء الفموية عند الطيور تختلف اختلافاً جذرياً عنها عند الإنسان، ومع ذلك فإن الطيور هي الحيوانات الوحيدة التي تستطيع أن تتعلم الكلام، والطير الذي صوته أكره الأصوات، أي الببغاء، هو الذي يتكلم خيراً من سائر الطيور. ولا يعترضنّ أحد بأن الببغاء لا يفهم ما يقول. لا ريب أنه يكرر هاذراً طوال ساعات كل ما حفظه لمجرد لذة الكلام ولذة الوجود في عشرة الناس. ولكنه يستطيع أيضاً، ضمن حدود حقل تصوره، أن يتعلم فهم ما يقوله. علّم ببغاء الشتائم على نحو يكوّن عن معناها فكرة ما (وتلك تسلية من التسليات التي يحبها ويفضلها البحارة الذين يعودون من المناطق الاستوائية) أَثِرْهُ، فسرعان ما ترى أنه يعرف استعمال شتائمه في محلها، و كما ينبغي، كبائعة خضار برلينية. كذلك هو شأنه حين يشحذ الحلوى والطيبات.
أولاً العمل، وبعده، وفي الوقت نفسه النطق: ذانك هما الحافزان الأساسيان اللذان تحول بتأثيرهما دماغ القرد شيئاً فشيئاً إلى دماغ إنساني، مع العلم أن دماغ الإنسان، رغم كل الشبه، يتجاوز دماغ القرد كثيراً من حيث الحجم والكمال ولكن مع تطور الدماغ، وإلى جانبه، تطورت أيضاً باستمرار أدواته المباشرة ـ أعضاء الحواس. وكما أن تطور النطق تدريجياً يرافقه بالضرورة تحسن مقابل في عضو السمع، كذلك فإن تطور الدماغ يرافقه، على وجه العموم، ترقي جميع الحواس بمجملها. إن نظر النسر أبعد مدى بكثير من نظر الإنسان، ولكن عين الإنسان تلحظ في الأشياء أكثر بكثير مما تلحظ عين النسر. وأنف الكلب أرهف بكثير من أنف الإنسان، ولكنه لا يميز جزءاً من مئة جزء من الروائح التي هي بالنسبة للإنسان علائم أكيدة لأشياء شتى. وحاسة اللمس التي تكاد تكون موجودة عند القرد بأشد أشكالها بدائية وفظاظة، لم تتطور إلا مع تطور يد الإنسان نفسها، بفضل العمل.
إن تطور الدماغ والحواس الخاضعة له، وتعاظم وضوح الإدراك، وتحسن القدرة على التحليل والتجريد والتعميم ـ كل هذا أثر في العمل والنطق وما انفك يبث في كل منهما تيارات ودفقات جديدة أبداً لكي يستمر في تطور دائم. وهذا التطور لم ينته حين انفصل الإنسان نهائياًُ عن القرد، بل إنه، على العكس، استمر مذ ذاك فلقد سار أشواطاً إلى الأمام، أشواطاً تختلف من حيث المدى والاتجاه، باختلاف الشعوب واختلاف العهود، أشواطاً انقطعت أحياناً بسبب من تقهقر محلي موقت، ولكنه، على العموم، سار إلى الأمام بخطى ثابتة قوية، متلقياً من جهة دفقة جديدة جبارة، ومن جهة أخرى توجيهاً أوضح وأدق، وذلك من عنصر جديدة انبثق علاوة مع ظهور الإنسان المكتمل، وهذا العنصر إنما هو المجتمع.
أغلب الظن أن مئات الآلاف من السنين ـ أي حقبة من الزمن أهميتها في تاريخ الأرض ليست أكبر من أهمية ثانية في حياة الإنسان(7) ـ قد انقضت قبل أن يخرج من عصبة القرود التي تتسلق الأشجار مجتمع من الناس. ولكن هذا المجتمع ظهر في آخر المطاف. وماذا نجد هنا من فرق مميز بين قطيع القرود والمجتمع الإنساني؟ العمل. كان قطيع القرود يكتفي باستنفاد أكل المنطقة التي تعود له والتي تتحدد مساحتها بحكم الأحوال الجغرافية أو بحكم درجة مقاومة القطعان المجاورة؛ وكان يتنقل من مكان إلى آخر ويدخل في صراع مع القطعان المجاورة لكي يظفر بمنطقته الغذائية أكثر مما توفّره هذه المنطقة بحالتها الطبيعية باستثناء أنه كان يسمّد هذه المنطقة بأقذاره دو وعي ولا قصد. و ما أن تم احتلال جميع الأراضي التي من شأنها أن تغذي القرود حتى استحال ازدياد عدد القرود. وفي أفضل الحالات كان بالإمكان أن يستقر عدد القرود. ولكن جميع الحيوانات تبدد المأكل تبديداً لا حد له، حتى أنها تقضي غالباً على المواد الغذائية الجديدة وتبيدها في بذورها وأصولها. إن الذئب، خلافاً للصياد، لا يوفر العنزة التي ستعطيه الجداء في السنة التالية. وفي اليونان، نجد أن المعز التي تأكل الشجيرات الفتية الصغيرة قبل أن يتوافر لها الوقت للنمو، قد جعلت جميع جبال هذا البلد قاحلة جرداء. إن هذا «التصرف الافتراسي» عند الحيوانات يضطلع بدور هام في تحول الأجناس التدريجي، إذ يجبرها على التكيف وفقاً لمأكل جديد غير المأكل العادي، وبذلك يكتسب دمها تركيباً كيماوياً آخر، ويتغير بنيانها الفيزيائي (الجسدي) بكليته شيئاً فشيئاً، بينما تتلاشى وتزول الأجناس الثابتة التي لا يتغير فيها شيء. ولا سبيل على الشك في أن هذا التصرف الافتراسي قد أسهم بقسط كبير جداً في تحول أجدادنا إلى بشر. فعند جنس من القرود يتفوق كثيراً على جميع الأجناس الأخرى من حيث الذكاء وقدرة التكيف، كان لا بدّ أن تؤدي عادة التصرف الافتراسي هذا إلى النتائج التالية وهي أن عدد النباتات التي يتألف منها غذاء هذا الجنس أخذ يزداد شيئاً فشيئاً، وأن الأجزاء الصالحة للأكل من هذه النباتات أصبحت تستهلك بأعداد ومقادير متزايدة أبداًن أي أن المأكل أخذ يتنوع أكثر فأكثر، وبالتالي، العناصر الداخلة في الجهاز العضوي، مما أوجد على هذا النحو الشروط الكيماوية لتحول القرد إلى إنسان. ولكن كل هذا لم يكن بعد العمل بالذات. فقد بدأ العمل من صنع الأدوات. ولكن أية هي أقدم الأدوات التي نجدها؟ كيف هي أقدم الأدوات وفقاً للأشياء المكتشفة الموروثة عن أناس ما قبل التاريخ وفقاً لنمط حياة الشعوب الأولى في التاريخ وكذلك وفقاً لنمط حياة المتوحشين الحاليين، البدائيين؟ إنها أدوات لصيد الحيوانات البرية ولصيد الأسماك، مع العلم أن الأدوات الأولى كانت تستخدم في الوقت نفسه سلاحاً. ولكن صيد الحيوانات البرية وصيد السمك يفترضان الانتقال من التغذية النباتية الصرفة إلى استهلاك اللحم مع النبات في آن واحد، و هذا يعني خطوة هامة جديدة نحو التحول إلى الإنسان. لقد كانت التغذية اللحمية تتضمن المواد الأساسية التي تحتاج إليها العضوية للتغير الغذائي في خلاياها، وتتضمنها جاهزة تقريباً. ومع تقصيرها مدة الهضم، كانت تقصر أيضاً في العضوية مدة سائر التفاعلات النباتية أي التي تنطبق على تفاعلات حياة النباتات، وتوفر بالتالي مزيداً من الوقت ومزيداً من المادة ومزيداً من الطاقة من أجل تجلي الحياة الحيوانية تجلياً نشيطاً بمعنى الكلمة الأصلي. وبقدر ما كان الإنسان بسبيل التكون يبتعد عن مملكة النباتات بقدر ما كان يرتفع أيضاً فوق الحيوان. وكما أن تكيف القطط والكلاب المتوحشة للتغذية النباتية التي إلى جانب اللحم قد أسهم في جعلها خدماً للإنسان، كذلك فإن تكيف الإنسان للتغذية اللحمية إلى جانب التغذية النباتية قد أسهم بقسط أساسي في منح الإنسان بسبيل التكون القوة الجسدية والاستقلال.ولكن التأثير الجوهري الأهم إنما كان تأثير التغذية اللحمة في الدماغ إذ أخذ الدماغ يتلقى المواد الضرورية لتغذيته وتطوره بمقادير أوفر بكثير مما مضى، وإذ استطاع بالتالي أن يتطور بمزيد من السرعة وبمزيد من الكمال من جيل إلى جيل. وسواء أطاب للنباتيين(8) أو لا، فإن الإنسان لم يصبح الإنسان دون التغذية اللحمة؛ وحتى إذا كانت التغذية اللحمية قد أدت في هذا العهد أو ذاك عند جميع الشعوب التي نعرف إلى أكل لحوم البشر (إن أجداد البرلينيين، الفيليتبا، أو الفيلز، كانوا لا يزالون يأكلون أهلهم في القرن العاشر)(9) ، فإن هذا الأمر ليس من شأننا الآن.
إن التغذية اللحمية قد أسفرت عن خطوتين جديدتين حاسمتين إلى الأمام: استعمال النار وتدجين الحيوانات. فالخطوة الأولى (استعمال النار) قصرت أكثر أيضاً عملية الهضم، إذ زودت الفم بغذاء نصف مهضوم، إذا جاز القول، والخطوة الثانية (تدجين الحيوانات) جعلت التغذية اللحمية أكثر وفرة إذ أمنت لها، إلى جانب صيد الحيوانات البرية، مصدراً جديداً من الحليب ومشتقاته تعادل قيمته من حيث تركيبه قيمة اللحم على الأقل. وهكذا غدتا الخطوة الأولى والخطوة الثانية، بطريقة مباشرة، وسيلتين جديدتين للإنسان من أجل التحرر. وقد نشطت بعيداً عن الموضوع إذا تناولنا هنا بالتفصيل مفاعيلهما غير المباشرة رغم ما اتسمت به من أهمية كبرى بالنسبة لتطور الإنسان والمجتمع.
وكما تعلّم الإنسان أن يأكل كل ما هو صالح للأكل، كذلك تعلم أن يعيش في كل المناخات. وانتشر في الأرض الصالحة للسكن قاطبة، هو الحيوان الوحيد الذي كان بوسعه أن يفعل ذلك بنفسه. أما سائر الحيوانات التي تكيفت وتأقلمت في كل مكان، فإنها لم تتعلم هذا الأمر بنفسها، بل تعلمته من اللحاق بالإنسان فقط، وهذه الحيوانات إنما هي الحيوانات الداجنة والهوام. والانتقال من حرارة المناخ المستقرة في الوطن الأصلي إلى مناطق أبرد حيث السنة تنقسم إلى شتاء وصيف، خلق حاجات جديدة: الحاجة إلى السكن واللباس اتقاء من البرد والرطوبة، مما فتح السبيل أمام فروع جديدة من العمل وأمام نشاطات جديدة أبعدت الإنسان أكثر فأكثر عن الحيوان.
وبفضل تناسق عمل اليد والدماغ وأعضاء النطق لا عند كل فرد من الأفراد وحسب، بل في المجتمع أيضاً، أصبح بمقدور الناس أن يقوموا بعمليات أكثر فأكثر تعقيداً وأن يستهدفوا ويبلغوا أهدافاً أرفع فأرفع. ومن جيل إلى جيل اختلف العمل نفسه وازداد اكتمالاً وتنوعاً. وإلى صيد الحيوانات البرية وتربيتها انضمت الزراعة وإلى الزراعة انضم الغزل، والحياكة، وتكييف المعادن، وصنع الآنية الفخارية، و الملاحة. وأخيراً ظهر الفن والعلم إلى جانب التجارة والصناعة الحرفية؛ وتحولت القبائل إلى أمم ودول.وتطور القانون والسياسة، وتطور معهما في الوقت نفسه انعكاس الحياة الإنسانية الغريب المدهش في دماغ الإنسان، أي اليدين. وإزاء جميع هذه التكوينات التي ظهرت بالدرجة الأولى على أنها من نتاجات الدماغ والتي بدت كأنها تسود المجتمعات البشرية، فإن نتاجات عمل الأيدي، وهي أكثر تواضعاً من نتاجات الدماغ، فقد انتقلت إلى المرتبة الثانية خصوصاً وأن الفكر الذي كان يضع خطة العمل، حتى في مرحلة مبكرة جداً من تطور المجتمع (مثلاً في الأسرة البدائية)، كان بإمكانه أن ينفذ العمل الذي يقرره بأيد غير أيديه. وإلى الفكر، إلى تطور الدماغ ونشاطه، نُسِبَت كلّ مأثرة سرعة تطور الحضارة. واعتاد الناس أن يفسروا نشاطهم بتفكيرهم بدلاً من أن يفسروا بحاجاتهم (التي تنعكس مع ذلك بكل تأكيد في رؤوسهم وتصبح واعية)، وهكذا نشأ مع الزمن هذا المفهوم المثالي عن العالم، الذي ساد العقول ولاسيما منذ انهيار العالم القديم.وما يزال هذا المفهوم سائداً إلى حد أن أوفر علماء الطبيعة نزعة مادية من مدرسة داروين لا يستطيعون حتى الآن أن يكونوا فكرة واضحة عن منشأ الإنسان إذ أنهم، بحكم التأثير الفكري المشار إليه، لا يرون الدور الذي اضطلع به العمل في هذا التطور.
إن الحيوانات، كما سبق وأشرنا عرضاً، شأنها شأن الإنسان، تعدل الطبيعة الخارجية بنشاطها، وإن بمقياس أقل، و التعديلات التي تجريها في محيطها تؤثر بدورها فيها، كما رأينا، إذ تحدث فيها تعديلات معينة، ذلك لأنه لا شيء يحدث في الطبيعة بصورة منعزلة. إن كل ظاهرة تؤثر في الأخر ى والعكس بالعكس، ولأن علماء الطبيعة ينسون في معظم الأحيان هذه الحركة الشاملة وهذا التفاعل المتبادل الشامل، فإنهم لا يستطيعون أن يكوّنوا فكرة واضحة عن أبسط الأشياء. لقد رأينا كيف يحول المعز دون إعادة تشجير اليونان. وفي جزيرة القديسة هيلانة تمكنت رؤوس المعز والخنازير التي جاء بها أوائل الفلاحين الذين بلغوا هذه الجزيرة، من أن تستأصل النباتات القديمة وتبيدها كلياً تقريباً، وهيأت، بالتالي، التربة التي استطاعت أن تنتشر فيها النباتات التي حملها فيما بعد الملاحون الآخرون والمعمرون. ولكن حين تؤثر الحيوانات تأثيراً مديداً في الطبيعة المحيطة بها فإن هذا التأثير يتم دون إرادة منها، وهو بالنسبة لهذه الحيوانات بالذات مجرد صدفة. والحال، بقدر ما يبتعد الناس عن الحيوان، بقدر ما يتخذ فعلهم في الطبيعة طابع نشاط مقصود، منهجي، يرمي إلى غايات معينة، معروفة سلفاً. إن الحيوان يقضي على نبات منطقة ما دون أن يعرف ما يفعل. بينما الإنسان يقضي على هذا النبات لكي تصبح التربة صالحة للاستعمال فيزرع فيها الحبوب، أو يغرس فيها الأشجار أو الكرمة، عارفاً أنها ستعود إليه، عند الحصاد أو القطاف، بما يزيد مرات عما زرعه أو غرسه. وهو ينقل نباتات مفيدة وحيوانات داجنة من بلد إلى آخر، فيعدل بالتالي عالم النباتات وعالم الحيوانات في قارات برمتها.وفضلاً عن ذلك، تحول يد الإنسان النباتات و الحيوانات عن طريق شتى وسائل الاصطفاء الاصطناعي إلى حد أنه لا يبقى بالإمكان معرفتها. وحتى الآن يستمر البحث عن النباتات البرية التي تتحدر منها أنواه حبوبنا. ولا يزال النقاش يدور لمعرفة أي حيوان بري تتحدر منه كلابنا وهي على ما هي عليه من اختلاف كبير، وأجناس خيلنا على كثرتها واختلافها.
ولكنه غني عن البيان أنه لا يخطر في بالنا أن ننكر على الحيوانات قدرة التصرف على نحو منهجي عن سابق قصد. بل بالعكس. فإن نمطاً من العمل المنهجي موجود بصورة جنينية في كل مكان يوجد فيه جِبْلَة(10) (protoplasme) آحين حي، له رد فعل، أي يقوم بحركات معينة، مهما كانت بسيطة للغاية، بسبب من تهييجات خارجية معينة. ويحدث رد الفعل هذا حيث لا يوجد بعد حتى خلية، أو بالأحرى خلية عصبية. إن الطريقة التي تأسر بها النباتات آكلة الحشرات، فريستها تبدو أيضاً إلى حد ما منهجية، وإن تكن لا واعية إطلاقاً.
إن القدرة على التصرف بطريقة واعية، منهجية، تتطور عند الحيوانات بقدر ما يتطور الجهاز العصبي، وهي تبلغ عند الضرعيات مستوى رفيعاً نوعاً. ففي صيد الثعالب ومطاردتها بواسطة الكلاب، كما هو عليه في انكلترا، يمكن أن نلاحظ دائماً بأية دقة ومهارة يعرف الثعلب كيف يستفيد من واسع معرفته للأماكن التي يفلت من مطارديه، وإلى أي حد يعرف ويستخدم جميع فوائد تضاريس التربة التي تقطع حبل المطاردة. وعند حيواناتنا الداجنة التي طورتها عشرة الناس أكثر أيضاً، يمكن أن نلاحظ كل يوم علائم من الدهاء تشبه كلياً علائم الدهاء التي نلاحظها عن الأطفال.فكما أن تاريخ تطور الجنين الإنساني في رحم والدته ليس سوى تكرار موجز لتاريخ التطور الجسدي عند أجدادنا الحيوانيين طوال ملايين السنين ابتداء من الدودة، كذلك فإن تطور الطفل الفكري هو تكرار أوجز وأكثف للتطور الفكري عند هؤلاء الأجداد، عند الأخيرين منهم على الأقل. ولكن مجمل النشاط المنهجي عند جميع الحيوانات لم يستطع أن يطبع الطبيعة بطابع إرادتها. إلا أن الإنسان وحده استطاع أن يفعل ذلك.
وهكذا، بكلمة موجزة، نقول أن الحيوان يستفيد من الطبيعة الخارجية فقط ويدخل عليها تعديلات بمجرد وجوده بينا الإنسان يحملها على خدمة أغراضه بما يدخل عليها من تغييرات ويسيطر عليها. وفي هذا يقوم الفرق الجوهري الأخير بين الإنسان وسائر الحيوانات، وهذا الفرق إنما يدين به الإنسان أيضاً للعمل(11).
بيد أنه يترتب علينا ألا نغالي في تقدير انتصاراتنا على الطبيعة. فهي تنتقم منا عن كل انتصار نحرزه. يقيناً أن كل انتصار ينطوي بالدرجة الأولى على النتائج التي توقعناها، ولكنه ينطوي أيضاً بالدرجة الثانية والثالثة على مفاعيل مختلفة تماماً، غير متوقعة، تقضي في كثير من الأحيان على أهمية هذه النتائج الأولى. فإن الناس الذين استأصلوا الغابات في بلاد ما بين النهرين، واليونان، وآسياً الصغرى وغيرها من المناطق لكي يكسبوا أرضاً صالحة للحراثة، كانوا أبعد من أن يتوقعوا أنهم بذلك إنما يمهدون للمحل الشامل السائد حالياً قي هذه البلدان، إذ دمروا مع الغابات مراكز تجمع الرطوبة وصيانتها(12).
وعلى السفوح الجنوبية من جبال الألب لم يخطر قط ببال الجبليين الإيطاليين الذين كانوا يبيدون غابات الصنوبر، التي يحافظ عليها بفائق العناية في السفوح الشمالية، أنهم بذلك إنما كانوا يقوضون تربية المواشي في أراضيهم الجبلية العالية؛ وكانوا بالأحرى لا يتوقعون أنهم على هذا النحو إنما يحرمون ينابيعهم الجبلية من الماء طوال القسم الأكبر من السنة، وأن هذه الينابيع ستصب على السهل، في موسم الأمطار، تيارات أقوى وأصخب بسبب من قطع الأشجار. والذين نشروا البطاطا في أوروبا لم يكونوا يدركون أنهم مع البطاطا إنما كانوا ينشرون أيضاً السلعة(13). وهكذا تذكرنا الوقائع لدى كل خطوة بأننا لا نسود مطلقاً على الطبيعة، كما يسود الفاتح على شعب غريب، أو كما يسود شخص كأنما هو من خارج الطبيعة، بل إنما نخصها نحن هذه الطبيعة بلحمنا، ودمنا، ودماغنا، وأننا في حضنها، وأن كل سيطرتنا عليها تقوم في كوننا، خلافاً لجميع المخلوقات الأخرى نستطيع أن نعرف قوانينها ونستطيع أن نستخدم هذه القوانين بسداد وصواب.
وبالفعل، نحن نتعلم كل يوم أن ندرك هذه القوانين بمزيد من الصحة وأن نعرف النتائج البعيدة والقريبة لتدخلنا النشيط في مجرى أمور الطبيعة العادي. ولقد أصبح بوسعنا أكثر فأكثر، ولاسيما بعد الخطوات الهائلة التي قطعها علم الطبيعة إلى الأمام في هذا القرن، أن نعرف كيف نحسب أيضاً النتائج الطبيعية البعيدة لأعمالنا الجارية اليومية على الأقل في ميدان الإنتاج، وأن نتعلم بالتالي كيف نروضها. ولكن بقدر ما تسير الأمور في هذا السبيل، بقدر ما يشعر الناس بل ويدركون من جديد أنهم لا يؤلفون إلا كلاً واحداً مع الطبيعة، وبقدر ما تستحيل تلك الفكرة الخرقاء والمنافية للطبيعة، القائلة بالتضاد بين الروح والمادة، بين الإنسان والطبيعة، بين الروح والجسد ـ تلك الفكرة التي انتشرت في أوروبا منذ عهد الانحطاط في العصور الكلاسيكية القديمة والتي عرفت مع المسيحية أعلى درجات تطورها.
ولكن إذا كان ترتب العمل طوال آلاف السنين لكي نتعلم إلى حد ما كيف نحسب سلفاً النتائج الطبيعية البعيدة لأعمالنا الرامية إلى الإنتاج، فلقد كان الحال أصعب بكثير أيضاً فيما يتعلق بالنتائج الاجتماعية البعيدة لهذه الأعمال. لقد أشرنا إلى البطاطا وإلى السلعة التي رافقت انتشارها. ولكن ما هي السلعة إلى جانب النتائج التي أسفر عنها حصر غذاء السكان الكادحين بالبطاطا فقط على شروط حياة الجماهير الشعبية في بلدان برمتها؟ وما هي السلعة إلى جانب المجاعة التي اجتاحت إرلنده عام 1847 إثر مرض البطاطا وقادت إلى القبر مليوناً من الإرلنديين لا يتغذون أو يكادون إلا من هذه البطاطا، وقذفت بمليونين آخرين منهم إلى الشاطئ الآخر من الأوقيانوس، وحين تعلم العرب تقطير الكحول، لم يخطر في بالهم قط، أنهم إنما ابتدعوا إحدى الأدوات الرئيسية التي سيصار إلى استعمالها فيما بعد لإبادة السكان الأصليين في أميركا التي لما تكتشف حينذاك ولمحوهم من على وجه البسيطة. وحين اكتشف كولومبس (14) أميركا، لم يكن يعرف أنه بهذا الاكتشاف إنما بعث من جديد الرق الذي كان قد زال من أوروبا منذ زمن طول وأرسى أسس النخاسة بالزنوج. والذين عملوا في القرنين السابع عشر والثامن عشر على ابتكار الآلة البخارية لم يخطر ببالهم أنهم إنما يبتدعون الأداة التي ستسهم أكثر من أية أداة أخرى في تحويل العلاقات الاجتماعية في العالم بأسره تحويلاً ثورياً والتي ستؤمن، خصوصاً في أوروبا، بحصر الثروة في يد الأقلية وتحويل الأغلبية الساحقة إلى بروليتاريا، ستؤمن أولاً السيطرة السياسية والاجتماعية للبرجوازية، ولكنه ستولد فيما بعد بين البرجوازية والبروليتاريا نضالاً طبقياً لا بد أن ينتهي بسقوط البرجوازية وزوال جميع التناقضات الطبقية. ـ ولكننا حتى في هذا الميدان نتعلم شيئاً فشيئاً، وأثر تجربة طويلة، وغالباً قاسية، وعن طريق مقارنة المواد التاريخية وتحليلها، كيف نستشف النتائج الاجتماعية البعيدة وغير المباشرة لنشاطنا الإنتاجي، وهكذا تتوافر لنا أيضاً إمكانية السيطرة على هذه النتائج وضبطها.
ولكن، لأجل تحقيق هذا الضبط، ينبغي أكثر من مجرد المعرفة. ينبغي انقلاب كامل في أسلوب إنتاجنا القائم حتى الآن، ومعه في كل نظامنا الاجتماعي الراهن.
إن جميع أساليب الإنتاج الماضية لم تبتغ إلا بلوغ أقرب نتيجة مفيدة، فورية، للعمل. فكانت تترك جانباً تماماً النتائج البعيدة، النتائج التي لا تظهر إلا فيما بعد، التي لا تؤثر إلا بفعل التكرار والتراكم التدريجيين. فقد كانت الملكية العامة البدائية للأرض توافق من جهة مستوى من تطور الناس يحد أفقهم، على العموم بما كان الأقرب، و تفترض من جهة أخرى بعض فائض من الأرض يمكن التصرف به ويدع بعض المجال لتخفيف العواقب الوخيمة المحتملة التي قد تنجم عن هذا الاقتصاد البدائي. وحين استنفد هذا الفائض من الأرض، تداعت الملكية العامة أيضاً. وأسفرت جميع أشكال الإنتاج العليا التالية عن تقسيم السكان إلى طبقات مختلفة ومن ثم إلى تعارض وتضاد الطبقات السائدة والطبقات المسودة، المظلومة.
ونتيجة لذلك غدت مصلحة الطبقة السائدة العامل المحرك للإنتاج، بقدر ما كان الإنتاج لا يقتصر على إبقاء المظلومين وإعالتهم بأرق حال. وهذا ما يحققه على أكمل وجه أسلوب الإنتاج الرأسمالي السائد حالياً في أوروبا الغربية. فإن الرأسماليين الفرديين الذين يسيطرون على الإنتاج والتبادل لا يمكنهم أن يهتموا إلا بأقرب نتيجة مفيدة لنشاطهم. بل إن هذه النتيجة المفيدة ـ بقدر ما يكون المقصود الاستفادة من السلعة المنتجة أو المبادلة ـ تهبط بكليتها إلى المرتبة الثانية، ويغدو الحصول على الربح عند البيع المحرك الوحيد.
إن علم البورجوازية الاجتماعي، الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، لا يتناول في الأساس إلا النتائج الاجتماعية المقصودة مباشرة من الأعمال الإنسانية الموجهة نحو الإنتاج والتبادل. وهذا ما ينطبق كل الإنطباق على النظام الاجتماعي الذي هذا العمل تعبيره النظري. فحيث ينتج الرأسماليون الفرديون ويبادلون قصد الربح المباشر، لا يمكن أن يؤخذ بعين الاعتبار بالدرجة الأولى إلا أقرب النتائج المباشرة. فإذا باع الصناعي أو التاجر، بصورة إفرادية، البضاعة المنتجة أو المشتراة، وباعها بالربح المألوف، فهو راض ولا يهتم أبداً بما يحدث فيما بعد للبضاعة وشاريها. وتلك هي أيضاً حال النتائج الطبيعية لهذه الأعمال. إن الزراع الإسبانيين في كوبا، الذي أحرقوا الغابات على سفوح الجبال ووجدوا في الرماد من الأسمدة ما يكفي لجيل واحد من أشجار القهوة الغنية المردود، ماذا كان يهمهم إذا كانت الأمطار الاستوائية ستجرف فيما بعد الطبقة الترابية السطحية التي لم يبق لها ما يحميها ولا تترك أثرها غير الصخور الجرداء! وفي أعمال الناس إزاء الطبيعة والمجتمع على السواء لا يؤخذ بعين الاعتبار بالدرجة الأولى في أسلوب الإنتاج الراهن إلا أقرب نتيجة ملموسة. و من ثم لا يزال بعضهم يأخذه العجب لكون النتائج البعيدة للأعمال الرامية إلى هذه النتيجة المباشرة مختلفة تماماً عن هذه النتيجة المباشرة، بل مضادة لها كلياً في معظم الأحيان؛ لكون الانسجام بين العرض والطلب ينقلب إلى عكسه في القطب المقابل كما يبين لنا مجرى الدورة الصناعية كل عشر سنوات، وكما اقتنعت ألمانيا بذلك إذ عانت فاتحة صغيرة من ثل هذا الانقلاب أثناء «الإفلاس»(15) ؛ لكون الملكية الخاصة التي ترتكز على العمل الشخصي تتطور حتماً نحو انعدام الملكية عند الشغيلة، بينما تتجمع الملكية بكليتها أكثر فأكثر في أيدي غير الشغيلة، لكون…(16)
(1) داروين، شارلز روبرت (1809 ـ 1882) ـ عالم طبيعي انجليزي كبير وواضع البيولوجيا التطورية العلمية. الناشر.
(2) راجع: داروين «أصل الإنسان والانتخاب حسب الجنس»، الفصل السادس: في نسب الإنسان وسلسلة النسب. (Ch. Darwin. «The Descent of Man, and Selection in Relation to Sex» Vol. 1, London, 1871). الناشر.
(3) رفائيل، سانتي (1483 ـ 1520) ـ رسام إيطالي كبير في عهد النهضة. الناشر.
(4) تورفالدسن، برتال (1768ـ 1844) ـ مثّال دانماركي مشهور. الناشر.
(5) باغنيني، نيقولو (1782 ـ 1840) ـ عازف كمان وملحن إيطالي كبير. الناشر.
(6) نطق: تكلم بصوت وحروف تعرف بها المعاني. (المنجد) ويقال: الإنسان حيوان ناطق. (المعرب).
(7) ـ حسب السير وليام طومسون، وهو خبير فذ له كلمته المسموعة في هذا الميدان، أن أكثر من مائة مليون سنة بقليل قد انقضت، أغلب الظن، منذ أن ابتدرت الأرض إلى حد أتاح للنبات والحيوانات أن تحيا عليها.
(8) أنصار التغذية النباتية دون اللحمة. (المعرب).
(9) يقصد أنجلس شهادة الراهب الألماني لابيو نوتكر (حوالي 952 ـ 1022) الواردة في كتاب J.Grimm. «Deutsche Rechtsalterthumer« Gottingen, 1828, S. 488. (ي. هريم: «قدم الحقوق الألمانية». غوتنغن، 1828، ص488). إن شهادة نوتكر هذه واردة في مؤلف «تاريخ ارلانده» الذي لم ينه أنجلس كتابته. الناشر.
(10) أو المادة التي تتكون منها خلية الأجسام الحية. (المعرب).
(11) ملاحظة على الهامش: «التشريف». الناشر.
(12) قي قضية تأثر نشاط الإنسان في تغير النباتات والمناخ راجع أنجلس كتاب: C. Fraas. «Klima und Pflanzenwelt in der Zeit» Landshut, 1847. (ك. فرآس: «المناخ وعالم النباتات مع مرور الزمن». لاندسهوت، 1847). لفت ماركس انتباه أنجلس إلى هذا الكتاب في رسالته المؤرخة في 25 آذار (مارس) 1868. الناشر.
(13) خراج في البدن أو زيادة فيه كالغدة بين الجلد واللحم. (المنجد). (المعرب).
(14) كولومبس، خريتسوفوروس (1451 ـ 1506) ـ ملاح بارز، اكتشف أمريكا في عام 1492؛ ولد في جنوى. الناشر.
(15) يقصد أنجلس هنا الأزمة الاقتصادية العالمية التي نشبت في 1873. وقد ابتدأت الأزمة في ألمانيا بـ«إفلاس هائل» في أيار (مايو) 1873، كان فاتحة أزمة طويلة دامت حتى أواخر العقد الثامن. الناشر.
(16) وهنا تتوقف المخطوطة. الناشر.