اكتشاف علمي
القيمة المشكلة أو القيمة الناتجة

"القيمة (السوقية) هي حجر الزاوية في البناء الاقتصادي"، والقيمة "المشكلة" هي حجر الزاوية في مذهب التناقضات الاقتصادية.

فما هي إذن هذه "القيمة المشكلة" التي تشكل كل ما اكتشفه برودون في الاقتصاد السياسي؟

ما إن نعترف بالمنفعة حتى يكون العمل هو مصدر القيمة، ومقياس العمل هو الزمن وتتحدد القيمة النسبية للمنتجات بالوقت اللازم لإنتاجها والثمن هو التعبير النقدي عن القيمة النسبية لمنتج ما، وأخيراً فإن القيمة المشكلة لناتج ما هي بكل بساطة القيمة التي يشكلها وقت العمل المتجسد فيها.

وتماماً كما اكتشف آدم سميث تقسيم العمل فإن برودون يزعم أنه اكتشف «القيمة المشكلة». وهي ليست بالدقة "شيئاً لم يُسمع به" غير أن علينا أن نعترف بأنه ليس ثمة شيء لم يُسمع به في أي اكتشاف للعلم الاقتصادي، غير أن برودون - الذي يُقدر أهمية ابتكاره كل التقدير - يسعى مع ذلك إلى التقليل من فضله.

"حتى يطمئن القارئ إلى إدعائه الأصالة، وكي يكسب النفوس التي يجعلها تهيبها قليلة التحبيذ للأفكار الجديدة".

لكنه عند تقدير نصيب كل من أسلافه في فهم القيمة مجبر على أن يعترف جهراً بأن النصيب الأكبر، نصيب الأسد كان نصيبه هو.

"لقد أدرك آدم سميث بشكل غامض الفكرة التركيبية للقيمة .... لكن فكرة القيمة هذه كانت عند آدم سميث حدسية تماماً. والمجتمع لا يغير عاداته استناداً إلى الإيمان بالحدس فقراراته إنما تصدر استناداً إلى الوقائع. وكان لا بد أن تعبر النقيضة عن نفسها بشكل ملموس وواضح بدرجة أكبر وكان جان بتيست ساي هو الناطق الرئيسي باسمها".

 هذا بإيجاز هو تاريخ اكتشاف القيمة التركيبية: عند آدم سميث حدس غامض، وعند ج. ب. ساي نقيضه، وعند برودون الحقيقة المشكِّلة والحقيقة «المشكَّلة». ودعونا لا نخطئ في هذا الأمر فكل الاقتصاديين الآخرين منذ ساي حتى برودون إنما كانوا يتعثرون في أخدود النقيضة.

"ومن غير المصدق أن مثل هذا العدد الكبير من رجال الفكر قد أرغوا وأزيدوا طيلة الأربعين عاماً الأخيرة ضد هذه الفكرة البسيطة ولكن كلا، إن القيم تقارن دون أن يكون هناك أي وجه للمقارنة بينها، ودون أية وحدة للقياس، وهذا - وليس اعتناق نظرية المساواة الثورية - هو ما صمم اقتصاديو القرن التاسع عشر على الدفاع عنه في مواجهة الجميع وضدهم. فماذا ستقول عن ذلك الأجيال المقبلة؟" (1).

إن الأجيال المقبلة - التي أثيرت هنا بشكل فجائي - ستبدأ بالتخبط حول التتابع الزمني ولا بد أنها ستتساءل: أليس ريكاردو ومدرسته من اقتصاديي القرن التاسع عشر؟ إن مذهب ريكاردو الذي يضع كمبدأ أن

"القيمة النسبية للسلع لا تتمشى إلا مع كمية العمل اللازم لإنتاجها"،

يرجع إلى عام 1817 وريكاردو هو رأس مدرسة بأسرها سارت في إنجلترا منذ عودة الملكية (2). ويلخص مذهب ريكاردو - بصرامة ودون رحمة - البورجوازية الإنجليزية بأسرها، وهي ذاتها نموذج البورجوازية الحديثة. «ماذا ستقول الأجيال المقبلة؟ إنها لن تقول إن برودون لم يعرف ريكاردو، لأنه يتحدث عنه، ويتحدث عنه باستفاضة، ويظل يعود إليه، ويختتم حديثه بوصف مذهبه بأنه «هراء». وإذا حدث أن تدخلت الأجيال المقبلة فلربما قالت أن برودون - لخشيته من إثارة الخوف من الإنجليز لدى قرائه ـ قد فضل أن يجعل من نفسه الناشر المسؤول لأفكار ريكاردو. وعلى أي حال فإنها ستجد أن من السذاجة البالغة أن يعرض برودون كنظرية ثورية للمستقبل ما عرضه ریکاردو باعتباره نظرية المجتمع الحالي المجتمع البورجوازي، وأن يأخذ لحل النقيضة بين المنفعة والقيمة التبادلية ما عرضه ريكاردو ومدرسته قبله بفترة طويلة باعتباره الصيغة العلمية لجانب واحد من هذه النقيضة للقيمة التبادلية ولكن فلنترك الأجيال المقبلة وشأنها مرة وإلى الأبد ولنواجه برودون بسلفه ريكاردو. وهذه بعض الفقرات عن هذا الكاتب تلخص مذهبه عن القيمة :

"فليست المنفعة هي مقياس القيمة التبادلية وأن تكن أساسية للغاية بالنسبة لها "(3) .

"والأشياء حالما يعترف لها بمنفعة في ذاتها تستمد قيمتها التبادلية من مصدرين من ندرتها ومن كمية العمل اللازمة للحصول عليها وهناك أشياء تتحدد قيمتها بندرتها ،وحدها فلا يمكن لأي عمل أن يزيد كميتها، ومن هنا فإن قيمتها لا يمكن الهبوط بها بزيادة وفرتها مثل التماثيل أو اللوحات النادرة إلخ. وقيمتها لا تعتمد إلا على قدرة من يرغبون في حيازتهم وأذواقهم ونزواتهم" (4).

"غير أن هذه السلع لا تشكل إلا جزءاً صغيراً للغاية من مجموع السلع التي يتم تبادلها يومياً. أما الجزء الأكبر من الأشياء التي يرغب الناس في تملكها فهو ثمرة الصناعة، ويمكن مضاعفته لا في بلد واحد فحسب، بل في كثير من البلاد دون حدود مرسومة تقريباً، كلما أردنا استخدام الصناعة اللازمة لخلقه" (5) .

"وهكذا فحين نتحدث عن السلع، وعن قيمتها التبادلية وعن المبادئ التي تحكم أثمانها النسبية فإننا لا نعني دائماً إلا مثل هذه السلع التي يمكن زيادة كميتها بجهد الصناعة البشرية والتي تشجع المنافسة إنتاجها، ولا يعوقه أي عائق "(6).

ويستشهد ريكاردو بآدم سميث الذي يقول عنه أنه حدد المصدر الأصلي للقيمة التبادلية بقدر كبير من الدقة» (آدم سميث ثروة الأمم» - الكتاب الأول - الفصل الخامس) (7) .

ويضيف :

"وكون هذا [أي وقت العمل] هو حقاً أساس القيمة التبادلية لكل الأشياء، باستثناء تلك التي لا يمكن للصناعة البشرية مضاعفتها كما تريد، مذهب له أهمينه القصوى في الاقتصاد السياسي، فما من مصدر لمثل هذا القدر الكبير من الأخطاء ومن الاختلاف في الرأي في هذا العلم، مثل الأفكار الغامضة غير المحددة التي تعلق بكلمة "القيمة" "(8) .

"وإذا كانت كمية العمل المتجسد في شيء ما هي التي تحكم قيمته التبادلية فإن كل زيادة في كمية العمل لابد أن تزيد قيمة الشيء الذي بذلت فيه، كما أن كل تخفيض في العمل لا بد أن يهبط بالثمن" (9) .

 ويمضي ريكاردو بعد ذلك ليأخذ على سميث:

(1) أنه أقام للقيمة مقياساً آخر غير العمل، هو أحياناً قيمة القمح وأحياناً كمية العمل التي يمكن للشيء أن يشتريها إلخ"(10)

(2) أنه اعترف بالمبدأ دون تحفظ، ومع ذلك فقد قصر تطبيقه على الحالة البدائية الفظة للمجتمع، التي سبقت كلاً من تراكم رؤوس الأموال وملكية الأرض (11) .

ودأب ريكاردو في إثبات أن ملكية الأرض، أي الريع لا يمكن أن تغير القيمة النسبية(12) للمواد الغذائية، وأن تراكم رأس المال ليس له سوى تأثير عابر متذبذب على القيم النسبية التي تتحدد بالكمية النسبية للعمل المبذول في إنتاجها.

وتأييداً لهذه القضية يقدم نظريته الشهيرة عن الريع العقاري ويحلل رأس المال ولا يجد فيه في النهاية إلا عملاً متراكماً. ثم يطوّر نظرية كاملة عن الأجور والأرباح، ويثبت أن الأجور والأرباح ترتفع وتنخفض في تناسب عكسي، دون أن تؤثر في القيمة النسبية للناتج وهو لا يهمل التأثير الذي يمكن أن يكون لتراكم رؤوس الأموال واختلاف طبيعتها (رؤوس الأموال الثابتة ورؤوس الأموال المتداولة) وكذلك المعدلات الأجور على القيمة النسبية للمنتجات. بل الواقع أن هذه كانت المشكلات الرئيسية التي تشغل ريكاردو. وهو يقول (13) :

"إن الاقتصاد في العمل لا يمكن إلا أن يقلل القيمة النسبية للسلعة سواء كان هذا الاقتصاد في العمل اللازم لصناعة السلعة ذاتها أو في العمل اللازم لتكوين رأس المال المستخدم في إنتاجها.(14)

"وبالتالي فطالما استمر يوم العمل في إعطاء كمية السمك نفسها لشخص والغزل لشخص آخر فإن المعدل الطبيعي لسعر التبادل سيظل هو هو، أياً كان التغير في الأجور والأرباح، ورغم كل تأثيرات تراكم رأس المال" ( 15) .

"لقد اعتبرنا العمل أساس قيمة الأشياء، وكمية العمل اللازم لإنتاجها القاعدة التي تحكم الكميات النسبية من السلع التي ينبغي تقديمها عند مبادلتها بأخرى لكننا لم نزعم بإنكار حدوث انحرافات عارضة ومؤقتة في الثمن الجاري للسلع عن هذا الثمن الأولي والطبيعي "(16).

"وتكاليف الإنتاج هي التي تحكم في التحليل الأخير أثمان الأشياء، وليس - كما قيل كثيراً - التناسب بين العرض والطلب" (17).

وكان اللورد لوديردال قد طوّر اختلافات القيمة التبادلية تبعاً لقانون العرض والطلب، أو للندرة والوفرة بالنسبة للطلب. وفي رأيه أن قيمة الشيء يمكن أن تزيد حين تنخفض كميته أو حين يزيد الطلب عليه، ويمكن أن تنخفض نتيجة للزيادة في كميته أو النقص في الطلب. وهكذا فإن قيمة شيء ما يمكن أن تتغير بفعل ثمانية أسباب مختلفة، أربعة أسباب منها تنطبق على الشيء ذاته، وأربعة أسباب تنطبق على النقود وعلى أية سلعة أخرى تستخدم كمقياس للقيمة. وهذا هو دحض ريكاردو لذلك :

"إن المنتجات التي احتكرت سواء من جانب فرد أو شركة تتغير قيمتها تبعاً للقانون الذي أرساه اللورد لوديردال: فهي تهبط في تناسب مع عرضها بكمية أكبر، وترتفع في تناسب مع الرغبة التي يبديها المشترون في الحصول عليها وليس لأثمانها أي صلة ضرورية بقيمتها الطبيعية. أما الأشياء الخاضعة للمنافسة بين البائعين والتي يمكن زيادة كميتها في حدود معتدلة، فإن أثمانها ستتوقف في النهاية لا على حالة الطلب والعرض، وإنما على زيادة أو انخفاض تكلفة إنتاجها" (18).

ونترك للقارئ المقارنة بين لغة ريكاردو البسيطة الواضحة المحددة هذه ومحاولات برودون الطنانة للوصول إلى تحديد القيمة النسبية بوقت العمل.

إن ريكاردو يرينا حركة الإنتاج البورجوازي الواقعية التي تشكل القيمة. أما برودون الذي يبعد هذه الحركة الواقعية عن حسابه فإنه" يرغي ويزبد "لكي يبتدع أساليب جديدة، ولكي ينظم العالم وفق صيغة يزعم أنها جديدة وليست سوى التعبير النظري عن الحركة الواقعية القائمة التي عرضها ريكاردو جيداً. إن ريكاردو يأخذ نقطة بدئه من المجتمع الحالي ليوضح لنا كيف يُشكل القيمة وبرودون يأخذ القيمة المشكلة نقطة بدء له ليشكل عالماً اجتماعياً جديداً بواسطة هذه القيمة. فبالنسبة له - أي لبرودون - لا بد للقيمة المشكَّلة أن تتحرك في دائرة لتغدو ثانية عنصراً مشكِّلاً لعالم هو أصلاً مشكَّل وفقاً لهذا الأسلوب في التقويم. إن تحديد القيمة بوقت العمل هو لدى ريكاردو قانون القيمة التبادلية، وهو عند برودون ترکیب" Synthèse» القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية. ونظرية ريكاردو عن القيم هي التفسير العلمي للحياة الاقتصادية الفعلية ونظرية برودون عن القيم هي التفسير الطوباوي لنظرية ريكاردو. وريكاردو يثبت صدق صيغته باستخلاصها من كل العلاقات الاقتصادية، وبتفسير كل الظواهر بهذه الوسيلة، حتى تلك التي قد تبدو لدى الوهلة الأولى متناقضة معها مثل الربع وتراكم رؤوس الأموال والعلاقة بين الأجور والأرباح وهذا بالتحديد ما يجعل مذهبه مذهباً علمياً، أما برودون الذي أعاد اكتشاف صيغة ريكاردو هذه عن طريق افتراضات تعسفية تماماً فإنه مجبر بعدئذ على أن يبحث عن وقائع اقتصادية معزولة يلويها ويزيفها ليقدمها كأمثلة، كتطبيقات قائمة بالفعل، وكبدايات لتحقيق فكرته التجديدية (Regeneratrice) (انظر فقرتنا الثالثة). ولننتقل الآن إلى النتائج التي يستخلصها برودون من القيمة المشكلة (بوقت العمل).

-إن كمية معينة من العمل تعادل الناتج الذي تخلقه هذه الكمية من العمل ذاتها.

- إن كل يوم عمل يساوي أي يوم عمل آخر، أي أنه عند تساوي الكمية فإن عمل إنسان ما يساوي عمل إنسان آخر : وليس ثمة فوارق كيفية. فبكمية العمل ذاتها يمكن أن يعطي ناتج إنسان ما مقابل ناتج إنسان آخر. وكل الناس عاملون بالأجر، ويحصلون على أجور متساوية مقابل وقت متساو من العمل وتحكم المساواة الكاملة المبادلات. 

فهل هذه الاستخلاصات هي النتائج الطبيعية الدقيقة للقيمة «المشكلة» أو المحددة بوقت العمل؟

إذا كانت القيمة النسبية لسلعة ما تتحدد بكمية العمل اللازم لإنتاجها فسينتج بالطبع أن القيمة النسبية لعمل ـ أو الأجر - تتحدد بكمية العمل اللازم لإنتاج الأجر. وهكذا فإن الأجر - أي القيمة النسبية للعمل أو ثمنه - يتحدد بوقت العمل اللازم لإنتاج كل ما هو ضروري لإعالة العامل.

"خفض تكاليف إنتاج القبعات وسيهبط ثمنها في النهاية إلى ثمنها الطبيعي الجديد رغم أن الثمن قد يتضاعف أو يبلغ ثلاثة أو أربعة أمثاله، خفض تكاليف معيشة الناس بتخفيض الثمن الطبيعي للطعام والملابس التي تصان بها الحياة، وستهبط الأجور في النهاية بالرغم من أن الطلب على الأيدي العاملة قد يرتفع كثيراً جداً(19)

ولا شك أن لغة ريكاردو ساخرة كل السخرية، فوضع تكاليف صناعة القبعات وتكاليف معيشة الناس على المستوى نفسه يعني تحويل الإنسان إلى قبعة ولكن دعونا لا نثير ضجة حول السخرية فالسخرية إنما هي سخرية الوقائع لا الكلمات التي تعبر عن الوقائع إن كتاباً فرنسيين مثل السادة دروز وبلانكي وروسي وغيرهم يشعرون بارتياح بريء حين يثبتون تفوقهم على الاقتصاديين الإنجليز بالسعي إلى مراعاة لياقات المخاطبة الإنسانية، وإذا كانوا يلومون ريكاردو ومدرسته على لغتهم الساخرة فلأنهم يشعرون بالضيق إذ يرون العلاقات الاقتصادية معروضة بكل فجاجتها، ويرون أسرار البورجوازية وقد نزع عنها القناع.

ولنلخص حديثنا : إن العمل - باعتباره ذاته سلعة - يقاس بوقت العمل اللازم لإنتاج سلعة العمل. فماذا نحتاج لإنتاج سلعة العمل هذه؟ بالدقة وقت العمل اللازم لإنتاج الموضوعات التي لا غنى عنها للإبقاء الدائم على العمل، أي للإبقاء على العامل حياً قادراً على تكاثر جنسه. وليس الثمن الطبيعي للعمل إلا الحد الأدنى للأجر(20). وإذا كان معدل الأجور الجاري يرتفع عن هذا الثمن الطبيعي فذلك بالتحديد لأن قانون القيمة - الذي يضعه برودون كمبدأ ـ توازنه آثار تغيرات العلاقة بين العرض والطلب. غير أن الحد الأدنى للأجر يظل هو المركز الذي تنجذب نحوه المعدلات الجارية للأجور.

وهكذا فإن القيمة النسبية التي تُقاس بوقت العمل، هي بشكل حتمي صيغة الاستعباد الحديث للعامل، وليست ـ كما يريد لها برودون - "النظرية الثورية" لتحرر البروليتاريا .

ولنر الآن بأي قدر من الحالات لا يتمشى تطبيق وقت العمل كمقياس القيمة مع التناحر الطبقي القائم، والتوزيع غير المتساوي للناتج بين العامل المباشر ومالك العمل المتراكم. ولنأخذ أي ناتج آخر الجوخ على سبيل المثال، فإنه لما هو عليه، يحوي كمية محددة من العمل، وستظل هذه الكمية من العمل هي هي ، أياً كان الوضع المتبادل لمن تعاونوا في خلق هذا الناتج.

ولنأخذ ناتجاً :آخر الكتان الذي يحتاج كمية العمل عينها التي يحتاجها الجوخ.

إذا تم تبادل بين هذين الناتجين فهو تبادل لكميتين متساويتين من العمل. وحين نتبادل هاتين الكميتين المتساويتين من العمل فإننا لا نغير الوضع المتبادل للمنتجين، تماماً كما لا تغير شيئاً في وضع العمال والصناعيين فيما بينهم. والقول بأن هذا التبادل للمنتجين اللذين قيسا بوقت العمل يؤدي إلى توزيع متساو بين كل المنتجين يعني افتراض أن المساواة في المشاركة في الناتج كانت قائمة قبل التبادل. فحين يتم مبادلة الكتان بالجوخ فإن منتجي الكتان سيشاركون في الجوخ بنسبة مساوية للنسبة التي كانوا يشاركون بها من قبل في الكتان.

وقد نتج وهم برودون عن أنه اعتبر كنتيجة، ما لا يمكن أن يكون في أفضل الأحوال سوى افتراض اعتباطي.

ولنمض إلى أبعد من ذلك.

هل وقت العمل كمقياس للقيمة يفترض على الأقل أن الأيام متساوية، وأن يوم إنسان ما يساويه يوم إنسان آخر؟

كلا.

فلنفترض لحظة أن يوم عمل الجواهري يعادل ثلاثة أيام من عمل النساج فسيظل الوضع هو أن أي تغير في قيمة الجواهر بالنسبة للمنسوجات - ما لم يكن نتيجة عابرة لذبذبات العرض والطلب ـ لا بد أن يكون سببه هبوط أو زيادة في وقت العمل الذي ينفقه هذا أو ذاك في الإنتاج. وإذا كانت النسبة بين أيام عمل ثلاثة عمال مختلفين كالنسبة بين 1، 2، 3 فإن أي تغير في القيمة النسبية لمنتجاتهم سيكون تغيراً بنسبة نفسها 1 2 3 هذه عينها. وهكذا يمكن أن تقاس القيم بوقت العمل بالرغم من عدم تساوي قيمة مختلف أيام العمل، غير أنه لا بد لكي نطبق مثل هذا المقياس أن يكون لدينا معيار مقارن لمختلف أيام العمل: والمنافسة هي التي تضع هذا المعيار.

هل ساعة عملك تساوي ساعة عملي؟ هذا سؤال تحسمه المنافسة .

فالمنافسة - كما يقول اقتصادي أميركي - تحدد كم عدد أيام العمل البسيط التي يحويها يوم العمل المركب أفلا يفترض هذا الاختزال لأيام العمل المركب إلى أيام عمل بسيط أن العمل البسيط ذاته يتخذ مقياساً للقيمة؟ إذا كانت مجرد كمية العمل تؤدي وظيفة مقياس القيمة بغض النظر عن النوع فإن هذا بدوره يفترض أن العمل البسيط قد أصبح محور الصناعة. إنه يفترض أن الأعمال قد سويت بتبعية الإنسان للآلة أو بالتقسيم البالغ للعمل، وأن الناس قد انمحوا أمام العمل، وأن حركة رقاس الساعة قد أصبحت مقياساً دقيقاً للنشاط النسبي لاثنين من العمال بقدر ما هي مقياس دقيق لسرعة قاطرتين ولهذا يجب ألا نقول إن ساعة عمل إنسان ما تساوي ساعة عمل إنسان آخر بل بالأحرى أن إنساناً ما خلال ساعة يساوي إنساناً آخر خلال ساعة. فالوقت هو كل شيء والإنسان لم يعد شيئاً، أنه على الأكثر هيكل الوقت. فالكيف لم يعد يهم والكم وحده هو الذي يقرر كل شيء ساعة مقابل ساعة ويوماً مقابل يوم، لكن هذه التسوية للعمل ليست بأي حال من فعل عدالة برودون الأبدية وإنما هي بكل بساطة من فعل الصناعة الحديثة.

ففي الورشة الأوتوماتيكية لا يكاد عمل عامل ما يتميز بأي شكل عن عمل عامل آخر ولا يمكن تمييز العمال عن بعضهم البعض إلا بطول الوقت الذي يقضونه في العمل.

ورغم هذا فإن هذا الفارق الكمي يصبح - من زاوية معينة - فارقاً كيفياً، من حيث إن الوقت الذي يقضونه في العمل يتوقف جزئياً على أسباب مادية خالصة مثل التكوين البدني والعمر والجنس، وجزئياً على أسباب معنوية سلبية خالصة مثل الصبر ورباطة الجأش والدأب وباختصار فإذا كان هناك فارق في الكيف بين عمل مختلف العمال فإنه على الأكثر كيف من أدنى نوع بعيد كل البعد عن أن يكون تخصصاً مميزاً. وهذا ـ في التحليل الأخير - هو الوضع في الصناعة الحديثة. وفوق هذه المساواة - التي تحققت بالفعل في العمل الأوتوماتيكي - يستخدم برودون مسحاج (21) "التسوية" التي يعتزم إقامتها بشكل شامل في" الزمن القادم".

إن كل النتائج "التي تحقق المساواة" (égalitaire) والتي يستخلصها برودون من مذهب ريكاردو تقوم على خطأ أساسي، فهو يخلط بين قيمة السلع مقاسة بكمية العمل المتجسد فيها وقيمة السلع مقاسة "بقيمة العمل". ولو أن هاتين الطريقتين لقياس قيمة السلع كانتا شيئاً واحداً لأمكن أن يقال على حد سواء إن القيمة النسبية لأي سلعة ما تقاس بكمية العمل المتجسد فيها أو أنها تقاس بكمية العمل التي تستطيع أن تشتريها، أو أنها مرة أخرى تقاس بكمية العمل التي يمكن أن تشترى بها. لكن الأمر أبعد من أن يكون كذلك، فقيمة العمل لا يمكن أن تصلح مقياساً لقيمة شأنها في ذلك شأن قيمة أي سلعة أخرى. وتكفي بضعة أمثلة لكي توضح بشكل أفضل ما قررناه لتونا .

إذا تكلف مكيال من القمح يومي عمل بدلاً من يوم واحد فستكون له ضعف قيمته الأصلية؛ لكنه لن يحرك ضعف كمية العمل، لأنه لن يحوي من المواد الغذائية أكثر مما كان يحويه من قبل. وهكذا فإن قيمة القمح إذا ما قيست بكمية العمل المستخدم لإنتاجه ستتضاعف؛ لكنها إذ قيست سواء بكمية العمل التي تستطيع أن تشتريها أو بكمية العمل التي يمكن شراؤها بها لن تتضاعف بأي حال. ومن الناحية الأخرى إذا كان العمل عينه ينتج ضعف ما كان ينتجه من قبل من ملابس فإن قيمتها النسبية ستهبط إلى النصف، ورغم هذا فإن هذه الكمية المضاعفة من الملابس لن تهبط بذلك إلى طلب نصف كمية العمل فقط، كما أن العمل عينه لن يستطيع طلب ضعف كمية الملابس؛ لأن نصف الملابس سيظل يؤدي للعامل الخدمة التي كان يؤديها من قبل.

 وهكذا فإن تحديد القيمة النسبية للسلع بقيمة العمل يتعارض مع الحقائق الاقتصادية أنه تحرك في حلقة مفرغة، أنه تحديد للقيمة النسبية بقيمة نسبية هي ذاتها في حاجة إلى تحديد .

وليس من شك في أن برودون يخلط بين المقياسين، بين القياس بوقت العمل اللازم لإنتاج سلعة ما، والقياس بقيمة العمل. فهو يقول إن عمل كل إنسان يمكن أن يشتري القيمة التي يحويها». وهكذا فإن كمية معينة من العمل متجسدة في ناتج ما تعادل - وفقاً له - أجر العامل أي قيمة العمل، والتدليل نفسه هو الذي يجعله يخلط بين تكلفة الإنتاج والأجور.

"ما هو الأجر؟ إنه ثمن تكلفة القمح إلخ، إنه الثمن المتكامل لكل الأشياء" ولنمض إلى أبعد من ذلك. "الأجر هو التناسب بين العناصر التي تشكل الثروة". ما هو الأجر؟

إنه قيمة العمل.

ويأخذ آدم سميث كمقياس للقيمة أحياناً وقت العمل اللازم لإنتاج سلعة ما وأحياناً قيمة العمل. وقد كشف ريكاردو هذا الخطأ بإيضاحه بجلاء التباين بين هاتين الطريقتين للقياس ويمضي برودون بالخطأ أبعد من آدم سميث بالمطابقة بين الشيئين اللذين لم يزد الأخير عن أن يضعهما في تقارب (Juxtaposition).

إن برودون يبحث عن مقياس للقيمة النسبية للسلع لكي يجد النسبة الصحيحة التي ينبغي أن يشارك فيها العمال في المنتجات، أو بعبارة أخرى لكي يحدد القيمة النسبية للعمل.

ولكي يجد مقياس القيمة النسبية للسلع فإنه لا يستطيع أن يفكر في شيء أفضل من أن يعطي كمعادل لكمية معينة من العمل المجموع الكلي للمنتجات التي خلقتها، وهو ما يعادل افتراض أن المجتمع كله لا يتألف إلا من عمال مباشرين، يحصلون على ناتجهم كأجر وفي المقام الثاني فإنه يأخذ المساواة بين أيام عمل مختلف العمال أمراً مفروغاً منه. وباختصار فإنه يبحث عن مقياس القيمة النسبية للسلع لكي يصل إلى أجور متساوية للعمال وهو يأخذ المساواة في الأجور كحقيقة واقعة بالفعل لكي يمضي في البحث عن القيمة النسبية للسلع. يا للجدل الرائع!

" إن ساي والاقتصاديين من بعده قد لاحظوا أنه لما كان العمل ذاته موضوعاً للتقويم، لما كان سلعة كغيره من السلع، فسيكون دوراناً في حلقة مفرغة أن تتخذه مبدأ وسيباً فعالاً للقيمة، وليسمح لي هؤلاء الاقتصاديون بأن أقول إنهم كشفوا في ذلك عن قدر من الغفلة فالعمل يوصف بأن له قيمة لا باعتباره هو ذاته سلعة وإنما بالنظر إلى القيم التي يفترض أنه يحويها بالقوة. فقيمة العمل تعبير مجازي، وتقديم للنتجية على السبب، أنها خرافة شأنها شأن إنتاجية رأس المال.. فالعمل ينتج، ورأس المال له قيمة. وكنوع من الإضمار يتحدث المرء عن قيمة العمل ... فالعمل كالحرية.... شيء غامض غير محدد بطبيعته، وإنما يتحدد كيفياً بموضوعه، أي أنه يصبح واقعاً بواسطة الناتج».

"ولكن أبنا حاجة إلى أن تؤكد هذه النقطة؟ في اللحظة التي يغير فيها الاقتصادي [ضع مكانها اسم برودون) اسم الأشياء Vera rerum vocabular الأسماء الحقيقية للأشياء - المترجم] فإنه يعترف ضمناً يعجزه، ويقف بمنأى عن القضية "(22) .

لقد رأينا أن برودون يجعل قيمة العمل" السبب الفعال" لقيمة المنتجات إلى حد أن الأجر عنده - وهو الاسم الرسمي القيمة العمل - يشكل الثمن المتكامل لكل الأشياء. وهذا هو السبب في أن اعتراض ساي يزعجه، وهو لا يرى في العمل كسلعة - وهو واقع كثيب - إلا إضماراً لغوياً.

 ومن هنا فإن كل المجتمع الراهن - القائم على العمل كسلعة يقوم منذ الآن على ضرورة شعرية على تعبير مجازي. وإذا أراد المجتمع أن "يزيل كل المتاعب" التي يعانيها، حسناً! فليزل كل العبارات سيئة الرنين، فليغير اللغة، وما عليه لهذا الغرض إلا أن يطلب من الأكاديمية أن تصدر طبعة جديدة من قاموسها. ومن السهل بعد كل ما رأيناه أن نفهم لماذا كان على برودون - في كتاب عن الاقتصاد السياسي - أن يدخل في أبحاث مسهبة عن اشتقاق الكلمات وغيره من مواضيع النحو. وهكذا فإنه لا يزال يناقش في تعالم الاشتقاق المهجور لكلمة Servus من كلمة Servare. ولهذه الأبحاث الفيلولوجية معنى عميق معنى باطني، أنها تشكل جزءاً أساسياً من تدليل برودون.

فالعمل قوة العمل - بقدر ما تباع وتشترى ـ سلعة كغيرها من السلع ولها بالتالي قيمة تبادلية. لكن قيمة العمل، أو العمل من حيث هو سلعة، لا تنتج شيئاً إلا بقدر ما تصلح قيمة القمح،أو القمح من حيث هو سلعة، لأن تكون طعاماً.

والعمل «يساوي» أكثر أو أقل تبعاً لما إذا كانت السلع الغذائية أكثر أو أقل سعراً، وما إذا كان عرض وطلب الأيدي العاملة بهذه الدرجة أو تلك إلخ، إلخ.

والعمل ليس "شيئاً غامضاً"، فهو دائماً عمل محدد ما، وليس العمل عموماً هو الذي يُشترى ويُباع أبداً. وليس العمل وحده هو الذي يتحدد كيفياً بالموضوع، بل إن الموضوع كذلك يتحدد بالنوعية المحددة للعمل.

والعمل - بقدر ما يُباع ويُشترى ـ هو ذاته سلعة، فلماذا يُشترى؟ «بالنظر إلى القيم التي يفترض أنه يحويها بالقوة». ولكن إذا قيل عن شيء ما إنه سلعة فلا تعود تثور مسألة السبب في شرائه أي مسألة المنفعة المستمدة منه، والاستخدام الذي سيستخدم فيه، إنه سلعة كموضوع للإتجار وتقتصر كل حجج برودون على ما يلي: إن العمل لا يشترى كموضوع مباشر للاستهلاك كلا أنه يُشترى كأداة للإنتاج، كما يمكن أن تُشترى الآلة. فالعمل ـ كسلعة ـ له قيمة وهو لا ينتج. ولقد كان في وسع برودون أن يقول بالطريقة عينها إنه لا يوجد شيء يُسمى سلعة لأن كل سلعة إنما يُحصل عليها لغرض نافع ما، وليس أبداً كسلعة في ذاتها .

وعند قياس قيمة السلع بالعمل فإن برودون يلمح بشكل غامض إلى استحالة استبعاد العمل من هذا المقياس بالذات بقدر ما تكون للعمل ،قيمة بقدر ما هو سلعة. وهو يتوجس من أن في ذلك تحويلاً للحد الأدنى للأجر إلى ثمن طبيعي وعادي للعمل المباشر، وتقبلاً للوضع القائم للمجتمع. وهكذا فإنه لكي يفلت من هذه النتيجة المحتومة يرتد على أعقابه، ويزعم أن العمل ليس سلعة، وأنه لا يمكن أن تكون له قيمة. وينسى أنه هو نفسه قد اتخذ قيمة العمل مقياساً، ينسى أن مذهبه كله يقوم على العمل كسلعة، على العمل الذي تجري مقايضته وشراؤه وبيعه وتبادله مع المنتجات إلخ؛ على العمل الذي هو - في الواقع - المصدر المباشر لدخل العامل. إنه ينسى كل شيء.

فهو لكي ينقذ مذهبه يوافق على التضحية بأسسه.

.(23)Et propter vitam vivendi perdere causas!

ونصل الآن إلى تحديد جديد "للقيمة المشكلة».

"القيمة هي علاقة التناسب بين المنتجات التي تشكل الثروة ".

ولنلاحظ في المقام الأول أن العبارة البسيطة "القيمة النسبية أو التبادلية" تتضمن فكرة علاقة ما يتم بها تبادل المنتجات فيما بينها. وحين نطلق اسم "علاقة التناسب" على هذه العلاقة فإننا لم نغير شيئاً في القيمة النسبية، اللهم إلا التعبير، فلا انخفاض قيمة ناتج ما ولا ارتفاعها يقضي على ارتباطه "بعلاقة تناسب" ما بالمنتجات الأخرى التي تشكل الثروة.

فلماذا إذا هذا التعبير الجديد الذي لا يُدخل فكرة جديدة؟

إن "علاقة التناسب" توحي بكثير من العلاقات الاقتصادية الأخرى مثل التناسب في الإنتاج والتناسب الصحيح بين العرض والطلب إلخ؛ وقد فكر برودون في هذا كله وهو يصوغ هذا الإسهاب التعليمي للقيمة السوقية. 

وبادئ ذي بدء لمّا كانت القيمة النسبية للمنتجات تتحدد بكمية العمل المقارنة المستخدمة في إنتاج كل منها فإن علاقة التناسب - مطبقة على هذه الحالة الخاصة - تعني كمية كل من المنتجات التي يمكن صناعتها في زمن معين، والتي تقدم بالتالي مقابلاً لبعضها البعض.

 فلنر أية فائدة يستخلصها برودون من علاقة التناسب هذه.

كل امرئ يعرف أنه حين يتوازن العرض والطلب فإن القيمة النسبية لأي ناتج تتحدد بدقة بكمية العمل المتجسدة فيه، أي أن هذه القيمة النسبية تعبر عن علاقة التناسب بالمعنى الذي أضفيناه عليها لتونا بالتحديد. غير أن برودون يعكس ترتيب الأمور، فهو يقول أبدأ بقياس القيمة النسبية لناتج ما بكمية العمل المتجسدة فيه وعندئذ فإن العرض والطلب لا بد حتماً أن يتوازنا ويتماشى الإنتاج مع الاستهلاك، ويكون الناتج دائماً قابلاً للتبادل، وسيعبر ثمنه الجاري بالدقة عن قيمته الحقة وبدلاً من أن يقول ككل إنسان آخر حين يكون الجو صافياً فإننا نشاهد كثيراً من الناس يخرجون للتنزه فإن برودون يجعل ناسه يخرجون للتنزه كي يكفل لهم جواً صافياً .

وما يقدمه برودون كنتائج للقيمة السوقية المحددة مسبقاً بوقت العمل لا يمكن أن يبرره إلا قانون يجد تعبيراً تقريبياً عنه بالعبارات التالية :

سيتم تبادل المنتجات في المستقبل بالنسبة الدقيقة لوقت العمل الذي كلفته، وأياً كانت نسبة العرض إلى الطلب فإن تبادل السلع سيتم دائماً وكأنها قد أنتجت في تناسب مع الطلب. فليأخذ برودون على عاتقه أن يصوغ ويقر مثل هذا القانون وسنعفيه من ضرورة تقديم البراهين. أما إذا أصر على العكس على تبرير نظريته لا كمشرع وإنما كاقتصادي فسيكون عليه أن يثبت أن الوقت اللازم لخلق سلعة ما يشير بالدقة إلى درجة منفعتها، ويحدد علاقتها التناسبية بالطلب، وبالتالي بكل كمية الثروة. فإذا بيع الناتج في هذه الحالة بثمن يعادل تكلفة إنتاجه فسيتوازن العرض والطلب دائماً، إذ من المفروض أن تكلفة الإنتاج تعبر عن العلاقة الحقة بين العرض والطلب.

 والواقع أن برودون يسعى إلى إثبات أن وقت العمل اللازم لخلق ناتج ما يشير إلى تناسبه الصحيح مع الاحتياجات، بحيث أن الأشياء التي يكلف إنتاجها أقل وقت هي الأكثر نفعاً بشكل مباشر، وهكذا خطوة بخطوة. ومجرد إنتاج موضوع للترف يثبت على الفور ـ وفقاً لمذهبه ـ أن لدى المجتمع من وقت الفراغ ما يسمح له بأن يشبع حاجة مترفة .

ويجد برودون البرهان على قضيته في ملاحظة أن الأشياء الأكثر نفعاً تكلف أقل وقت للإنتاج، وأن المجتمع يبدأ دائماً بإنتاج الأشياء الأكثر سهولة، ثم بعد ذلك

"يبدأ في إنتاج الأشياء التي تكلف أكبر وقت للعمل، والتي تتماشى مع احتياجات أرفع منزلة».  ويستعير برودون من دونواييه مثال الصناعة الاستخراجية - تجميع الفواكه والرعي وصيد الحيوانات وصيد الأسماك إلخ، - وهي أبسط الصناعات وأقلها تكلفة، والتي بدأ بها الإنسان" اليوم الأول لخلقه الثاني». أما اليوم الأول للخلق الأول فمسجل في سفر التكوين الذي يرينا الله باعتباره أول صناعي في العالم.

غير أن الأمور تحدث بصورة مخالفة تماماً لما يتخيله برودون. ففي اللحظة ذاتها التي تبدأ فيها المدنية، يبدأ الإنتاج في الاستناد إلى التناحر بين المراتب والفئات والطبقات، وباختصار إلى التناحر بين العمل المتراكم والعمل المباشر. وحيث لا تناحر فلا تقدم هذا هو القانون الذي اتبعته المدنية حتى أيامنا فحتى الآن تطورت القوى الإنتاجية بحكم هذا النظام من التناحرات الطبقية. وقولنا الآن أن الناس يستطيعون - لأن كل احتياجات العمال جميعاً قد أشبعت - أن يكرسوا أنفسهم لخلق منتجات من مرتبة أرقى، لصناعات أكثر تعقيداً، يعني إبعاد التناحر الطبقي عن الاعتبار، وقلب كل التطور التاريخي رأساً على عقب. وإنه أشبه بقولنا إنه لأن أسماك المورين Murines كانت تربى في أحواض سمك صناعية أيام الأباطرة الرومان فإن السكان الرومانيين كان لديهم غذاءً وفيراً. والواقع هو أن الشعب الروماني على العكس لم يكن لديه ما يكفي لشراء خبزه في حين كان لدى الارستقراطيين الرومان ما يكفي من العبيد ليلقونهم غذاء لأسماك المورين.

إن ثمن إنتاج الطعام قد ارتفع باستمرار تقريباً في حين أن ثمن البضائع المصنوعة وبضائع الترف قد هبط باستمرار تقريباً. ولنأخذ صناعة الزراعة نفسها : إن أكثر الأشياء ضرورة مثل القمح واللحم إلخ، يرتفع ثمنها في حين أن القطن والسكر والبن ينخفض ثمنها بنسبة مذهلة. وحتى بين المواد الغذائية بالمعنى الصحيح فإن مواد الترف مثل الخرشوف والهليون إلخ، هي اليوم أرخص نسبياً من الأطعمة ذات الضرورة الأولى. إن غير الضروري أيسر في انتاجه في أيامنا من الضروري. وأخيراً فإن علاقات الأثمان المتبادلة ـ في العصور التاريخية المختلفة - ليست مختلفة فحسب بل هي متعارضة فطيلة العصور الوسطى كانت المنتجات الزراعية أرخص نسبياً من المنتجات الصناعية، وفي الأزمنة الحديثة انعكست العلاقة. فهل يعني هذا أن منفعة المنتجات الزراعية قد انخفضت منذ العصور الوسطى؟

إن منفعة المنتجات تتحدد بالظروف الاجتماعية التي يجد المستهلكون أنفسهم فيها، وهذه الظروف ذاتها تقوم على التناحر الطبقي.

فالقطن والبطاطس والمشروبات الروحية من أوسع الأشياء استخداماً. وقد ولدت البطاطس الدمامل الناتجة عن التهاب في الغدد الدماغية، وطرد القطن الكتان والصوف إلى حد كبير رغم أن الصوف والكتان في كثير من الحالات أكثر منفعة ولو من الناحية الصحية، وأخيراً كان للمشروبات الروحية اليد العليا على الجعة والنبيذ رغم أن من المعترف به في كل مكان أن المشروبات الروحية كمادة غذائية تعد سماً، وطيلة قرن جاهدت الحكومات عبثاً ضد الأفيون الأوروبي. لقد سادت الاقتصاديات وأملت أوامرها على الاستهلاك.

 فلماذا كانت البطاطس والقطن والمشروبات الروحية محاور المجتمع البورجوازي؟ لأن إنتاجها يحتاج إلى أقل قدر من العمل، وبالتالي فإن لها أدنى سعر. فلماذا يحدد الثمن الأدنى الاستهلاك الأقصى؟ أيرجع ذلك بأي حال إلى المنفعة المطلقة لهذه الأشياء منفعتها الباطنة، منفعتها لاحتياجات العامل كإنسان وليس لاحتياجات الإنسان كعامل؟ كلا، وإنما هو يرجع إلى أنه في مجتمع يقوم على البؤس فإن لأباس المنتجات حقاً محتوماً في أن يستخدمها أكبر عدد.

فأن نأتي الآن ونقول إنه لأن الأشياء ذات التكلفة الأقل تستخدم بشكل أوسع فلا بد أنها ذات منفعة أكبر يعني أن تقول إن الاستخدام الواسع للمشروبات الروحية ـ نتيجة لانخفاض تكلفة إنتاجها - هو البرهان القاطع على منفعتها ؛ إنه يعني أن نقول للبروليتاري أن البطاطس أكثر فائدة له من اللحم؛ يعني تقبل الوضع القائم؛ إنه باختصار مدح - مع برودون - للمجتمع دون أن نفهمه.

وفي مجتمع مقبل تكف فيه التناحرات الطبقية، ولا تعود به طبقات، لن يعود الاستعمال يحدد بالحد الأدنى لوقت الإنتاج، بل إن وقت الإنتاج الاجتماعي الذي سيخصص لمختلف الأشياء سيتحدد بدرجة منفعتها الاجتماعية.

ولنعد إلى قضية برودون في اللحظة التي يكف فيها وقت العمل اللازم لإنتاج سلعة ما عن أن يكون التعبير عن درجة منفعتها فإن القيمة التبادلية لهذه السلعة عينها - المحددة مقدماً بوقت العمل المتجسد فيها - ستصبح غير قادرة على تنظيم العلاقة الحقيقية بين العرض والطلب، أي علاقة التناسب بالمعنى الذي يضفيه عليها برودون في الوقت الحالي.

وليس بيع ناتج ما بثمن تكلفة إنتاجه هو الذي يشكل "علاقة التناسب" بين العرض والطلب، أو الحصة المتناسبة من هذا الناتج بالنسبة للمجموع الكلي للإنتاج، وإنما التغيرات في العرض والطلب هي التي تبين للمنتج أي كمية من سلعة مفيدة عليه أن ينتجها لكي يحصل في مقابلها على تكلفة الإنتاج على الأقل. ولما كانت هذه التغيرات تحدث باستمرار فإن هناك أيضاً حركة مستمرة من سحب رأس المال واستخدامه في مختلف فروع الصناعة.

"ونتيجة لمثل هذه التغيرات فحسب يخصص رأس المال النسبة المطلوبة بالتحديد وليس أكثر منها لإنتاج مختلف السلع التي تكون موضعاً للطلب، فمع ارتفاع الأثمان أو هبوطها، ترتفع الأرباح أو تنخفض عن مستواها العام، وينشجع رأس المال على الدخول من فرع العمالة الخاص الذي حدث فيه التغير أو يفزع خارجاً منه" .

"وحين ننظر إلى سوق مدينة كبيرة، وتلاحظ كيف يتم تزويدها بانتظام بكل السلع المنتجة محلياً والمستوردة بالكميات المطلوبة، وأياً كان تغير الطلب نتيجة للنزوات أو الذوق أو التغيرات في عدد السكان، دون أن تحدث كثيراً تأثيرات الإغراق نتيجة وفرة العرض الزائدة، أو ثمن مرتفع إلى حد هائل نتيجة ضعف العرض بالمقارنة بالطلب فلا بد أن تعترف بأن المبدأ الذي يوزع رأس المال بين كل فرع من فروع الصناعة بالنسب الملائمة بالدقة هو أكثر قوة مما نعتقد عموماً (24).

وإذا كان برودون يعترف بأن قيمة المنتجات تتحدد بوقت العمل فلا بد أن يعترف بالمثل بأن حركة الذبذبة وحدها هي التي تجعل العمل مقياس القيمة. فليست هناك "علاقة تناسب " مشكلة جاهزة، وإنما هناك حركة تقوم بالتشكيل.

وقد رأينا لتونا بأي معنى يكون صحيحاً أن نتحدث عن "التناسب" كنتيجة للقيمة التي تتحدد بوقت العمل. وسنرى الآن كيف يتحول هذا القياس بالوقت - الذي يدعوه برودون" قانون التناسب» - إلى قانون لعدم التناسب.

إن كل اختراع جديد يمكننا من أن ننتج في ساعة واحدة ما كان ينتج حتى الآن في ساعتين يُخفض ثمن كل المنتجات المماثلة في السوق. وتُجبر المنافسة المنتج على أن يبيع ناتج ساعتين بما يعادل ناتج ساعة واحدة فالمنافسة تحقق القانون الذي تتحدد القيمة النسبية لناتج ما وفقاً له بوقت العمل اللازم لإنتاجه. وبهذه الطريقة يصبح وقت العمل الذي يعد مقياساً للقيمة السوقية قانون الانخفاض المستمر للعمل. وسنمضي إلى أبعد من ذلك فسيكون هناك انخفاض لا في السلع المجلوبة إلى السوق وحدها بل كذلك في أدوات الإنتاج والمصانع بأسرها. وقد أشار ريكاردو بالفعل إلى هذه الحقيقة حين قال:

"ونحن بزيادتنا المستمرة لسهولة الإنتاج تقلل باستمرار قيمة بعض السلع قبل إنتاجها "(25).

ويمضي سيسموندي إلى أبعد من ذلك، فهو يرى في هذه القيمة المشكلة بوقت العمل مصدر كل تناقضات الصناعة والتجارة الحديثين ويقول:

"إن القيمة التجارية تتحدد دائماً في التحليل الأخير بكمية العمل اللازمة للحصول على الشيء المقدم: إنه الیست ما يكلفه فعلاً، ولكن ما يمكن أن يكلفه في المستقبل ربما بوسائل أفضل وهذه الكمية - رغم أن من الصعب تقويمها - تستقر دائماً بشكل أمين عن طريق المنافسة. وعلى هذا الأساس يحسب طلب البائع وعرض المشتري. وربما أعلن الأول أن الشيء قد كلفه عمل عشرة أيام غير أن الثاني إذا كان يعرف أن من الممكن إنتاجه منذ الآن بثمانية أيام عمل، وإذا ما أثبتت المنافسة ذلك للطرفين المتعاقدين، فستنخفض القيمة ويتحدد ثمن السوق بثمانية أيام فقط. صحيح أن كلاً من الطرفين يؤمن بأن الشيء نافع، أنه مرغوب فيه، وأنه بدون رغبة لن يكون هناك بيع لكن تحديد الثمن ليس له أي شأن بالمنفعة"(26).

ومن المهم أن نؤكد هذه النقطة، أن نؤكد أن ما يحدد القيمة ليس الوقت الذي ينفق في إنتاج شيء ما وإنما الحد الأدنى من الوقت الذي يمكن إنتاجه خلاله، ويتأكد هذا الحد الأدنى بواسطة المنافسة. فلنفترض لحظة أنه لم تعد هناك منافسة، وبالتالي لم تعد هناك وسيلة للتحقق من الحد الأدنى من العمل اللازم لإنتاج سلعة ما. فماذا سيحدث؟ يكفي أن تنفق ست ساعات عمل في إنتاج شيء ما لكي يكون لك الحق ـ في رأي برودون ـ في أن تطالب مقابله بستة أمثال ما يطالب به من لم ينفق سوى ساعة واحدة لإنتاج الشيء نفسه.

فبدلاً من علاقة تناسب لدينا علاقة "عدم تناسب"، وذلك على أي حال إذا ظللنا متمسكين بالعلاقات الطيبة أو السيئة.

وليس الانخفاض المستمر للعمل إلا جانباً واحداً، نتيجة واحدة، لتقويم السلع بوقت العمل فالزيادة الفاحشة في الأثمان وفائض الإنتاج، وكثير من الظواهر الأخرى للفوضى الصناعية، تجد تفسيرها في هذا الأسلوب للتقويم.

ولكن هل وقت العمل المستخدم كمقياس للقيمة يولد على الأقل التنوع المتناسب للمنتجات الذي يبهر برودون كثيراً ؟

بالعكس إن الاحتكار بكل رتابته يسير في أعقابه، ويغزو عالم المنتجات، تماماً كما يعرف المجتمع أن الاحتكار يغزو عالم أدوات الإنتاج ولا يمكن تحقيق تقدم سريع للغاية إلا في بضعة فروع للصناعة مثل صناعة القطن. والنتيجة الطبيعية لهذا التقدم هي أن منتجات صناعة القطن مثلاً يهبط ثمنها بسرعة؛ ولكن إذ يهبط ثمن القطن فلا بد أن يرتفع ثمن الكتان بالمقارنة فماذا ستكون الحصيلة؟ سيحل القطن محل الكتان. وبهذه الطريقة طرد الكتان من كل أميركا الشمالية تقريباً، وحصلنا بدلاً من التنوع المتناسب للمنتجات على سيادة القطن.

فماذا بقي من علاقة التناسب هذه؟ لا شيء سوى أمنية إنسان شريف، يود لو أنتجت السلع في تناسب يمكن يسمح : بأن تباع بثمن عادل. وفي كل الأزمان وجد البورجوازيون الطيبون والاقتصاديون المحبون للإنسان متعة في التعبير عن هذه الأمنية الصادقة.

ولنسمع ما يقوله بواغييير الاقتصادي القديم:

"ولا بد أن يكون ثمن السلع دائماً متناسباً، فمثل هذا التفاهم المتبادل وحده هو الذي يمكنها من أن توحد معاً، بحيث تعطي نفسها لبعضها البعض في كل لحظة ها هي القابلية المستمرة للتبادل عند برودون] ويولد كل منها الآخر ... ولما لم تكن الثروة إذاً سوى هذا الاتصال المستمر بين الإنسان والإنسان، والمهنة والمهنة إلخ، فإن من العمى الرهيب أن تتوجه للبحث عن أسباب البؤس في مكان آخر غير توقف مثل هذه التجارة المترتب على اضطراب التناسب في الأثمان "(27) . 

ولنستمع أيضاً إلى اقتصادي عصري:

"القانون العظيم الذي لا بد أن نطبقه على الإنتاج، أي قانون التناسب، هو وحده الذي يستطيع أن يحافظ على استمرار القيمة. فلا بد أن يكفل المعادل… وقد حاولت كل الأمم في مختلف فترات تاريخها أن تؤثر على قانون التناسب هذا بوضع العديد من اللوائح والقيود التجارية ... لكن الأنانية الكامنة في طبيعة الإنسان. دفعته إلى تحطيم كل أمثال هذه اللوائح. والإنتاج المتناسب هو تحقق الحقيقة الكاملة لعلم الاقتصاد الاجتماعي "(28).

(29) Fuit. Troja إن هذا التناسب الصحيح بين العرض والطلب، الذي بدأ من جديد يصبح موضع هذا القدر الكبير من الأمنيات قد كف عن الوجود منذ أمد بعيد، لقد انتقل إلى كونه أشياء مستهلكة بالية وهو لم يكن ممكناً إلا في وقت كانت فيه وسائل الإنتاج ،محدودة، وكانت حركة التبادل تجري داخل حدود ضيقة للغاية. ومع مولد الصناعة الكبيرة كان على هذا التناسب الصحيح أن ينتهي، ويجبر الإنتاج حتماً على السير في تتابع مستمر عبر ذبذبات الازدهار والكساد والأزمة والركود وتجدد الازدهار وهلم جرا.

 وأولئك الذين يريدون - مثل سيسموندي ـ أن يعودوا إلى التناسب الصحيح للإنتاج مع الاحتفاظ بالأسس الحالية للمجتمع رجعيون لأن عليهم - لكي يكونوا متسقين - أن يريدوا كذلك إعادة كل الظروف الأخرى للصناعة في الأزمنة السابقة.

ما الذي أبقى الإنتاج في تناسب صحيح، أو في تناسب صحيح تقريباً؟ كان الطلب هو الذي يسيطر على العرض، هو الذي يسبق العرض، وكان الإنتاج يسير في أعقاب الاستهلاك خطوة بخطوة. أما الصناعة الكبيرة ـ التي تجبرها ذات الأدوات التي تحت يدها على الإنتاج على نطاق متزايد - فلم تعد تستطيع أن تنتظر الطلب. إن الإنتاج يسبق الاستهلاك، والعرض يسبق الطلب.

وفي المجتمع الحالي في الصناعة القائمة على المبادلات الفردية، فإن فوضى الإنتاج التي هي مصدر كل هذا البؤس هي في الوقت نفسه مصدر كل تقدم. 

وهكذا فإن أمامك واحداً من اثنين:

إما أن تريد التناسب الصحيح للقرون الماضية بوسائل إنتاج عصرنا، وعندئذ فإنك رجعي وطوباوي معاً.

أو أن تريد التقدم دون الفوضى وعندئذ فلا بد لكي تبقي على القوى الإنتاجية من أن تتخلى عن المبادلات الفردية .

فالمبادلات الفردية لا تتمشى إلا مع الصناعة الصغيرة للقرون الماضية، بما يتبعها من تناسب صحيح، أو مع الصناعة الكبيرة بكل ما تجره من بؤس وفوضى.

وبعد كل ما قلناه فإن تحديد القيمة بوقت العمل - أي الصيغة التي يقدمها لنا برودون باعتبارها صيغة المستقبل التجديدية (régénératrice) - ليست إذاً سوى التعبير العلمي عن العلاقات الاقتصادية للمجتمع الحاضر، كما بين ريكاردو بوضوح قبل برودون بوقت طويل.

ولكن هل التطبيق "الذي يحقق المساواة" لهذه الصيغة - على الأقل - ينتمي لبرودون؟ هل هو أول من تصور إصلاح المجتمع بتحويل كل الناس إلى عمال مباشرين يتبادلون كميات متساوية من العمل؟ وهل حقه أن يلوم الشيوعيين - أولئك المجردين من كل معرفة بالاقتصاد السياسي، أولئك الحمقى العنيدون»، أولئك الحالمون بالفردوس - لأنهم لم يكتشفوا قبله "الحل لمشكلة البروليتاريا"؟

إن كل من يعرف أدنى معرفة حركة الاقتصاد السياسي في إنجلترا لا يمكن إلا أن يعرف أن كل الاشتراكيين في ذلك البلد تقريباً قد اقترحوا - في فترات مختلفة ـ تطبيق نظرية ريكاردو التي تحقق المساواة. ونستطيع أن نستشهد لبرودون: بهودجسكين (30) "الاقتصاد السياسي" - 1822؛ وويليم طومبسون بحث في مبادئ توزيع الثروة المفضية إلى السعادة البشرية - 1824 (31)، وت. ر . إدموندز "الأخلاق العملية والاقتصاد السياسي "- 1828 إلخ، إلخ، وأربع صفحات من إلخ هذه .وسنكتفي بالاستماع إلى شيوعي إنجليزي هو براي وسنقدم الفقرات الحاسمة في كتابه البارز "أخطاء العمل وعلاج العمل" - ليدز 1839، وسنتوقف عنده بعض الوقت، أولاً لأن براي لا يزال غير معروف كثيراً في فرنسا، وثانياً لأننا نعتقد أننا قد اكتشفنا لديه مفتاح أعمال برودون في الماضي والحاضر والمستقبل.

"الطريق الوحيد للوصول إلى الحقيقة هو أن نتجه على الفور إلى المبادئ الأولى. دعونا نتجه على الفور إلى المصدر الذي نشأت عنه الحكومات ذاتها. وبالتوجه هكذا إلى مصدر المسألة سنجد أن كل قوة للحكومة، وكل ظلم اجتماعي وحكومي جديد يدين بظهوره إلى النظام الاجتماعي القائم - إلى مأسسة الملكية كما هي عليه في الوقت الحاضر، وإننا بالتالي لكي تنهي أخطاءنا ويؤسنا فوراً وإلى الأبد فإن ترتيبات المجتمع الحالية لابد أن تقلب كلية.. . وهكذا فإننا بمهاجمة الاقتصاديين على أرضهم وبأسلحتهم هم، سنتجنب الثرثرة الحمقاء عن الحالمين والمنظرين الذين هم على استعداد دائماً . لأن يطلقوها. وما لم ينكر الاقتصاديون أو يدحضوا الحقائق والمبادئ المعروفة التي يقيمون عليها حججهم فإنهم لن يستطيعوا أن يرفضوا النتائج التي تصل إليها بهذا المنهج ذاته (32).

"إن العمل وحده هو الذي يضفي القيمة ... ولكل إنسان حق لا شك فيه في كل ما يمكن لعمله الأمين أن يجلبه له، وحين يتملك بهذه الطريقة ثمار عمله فإنه لا يرتكب ظلماً ضد أي كائن إنساني آخر، لأنه لا يتدخل في حق إنسان آخر في أن يتصرف بالطريقة نفسها .... ويمكننا إرجاع ولادة كل الأفكار عن الأرقى والأدنى، عن السيد والأجير، إلى إهمال المبادئ الأولى، وإلى ما نشأ عن ذلك من عدم مساواة في الملكيات ولن يمكن اجتثاث مثل هذه الأفكار ولا هدم المؤسسات القائمة عليها، طالما بقيت عدم المساواة هذه قائمة. لقد تطلع الناس عبثاً حتى الآن إلى معالجة الوضع الراهن غير الطبيعي للأمور بتدمير اللامساواة القائمة، وترك سبب اللامساواة دون أن يمسوه، لكننا سرعان ما سنرى أن الحكومة ليست سبباً بل نتيجة - إنها ليست الخالق بل المخلوق - إنها باختصار بنت عدم المساواة في الملكية وإن عدم المساواة في الملكية يرتبط ارتباطاً لا ينفصم بالنظام الاجتماعي الراهن "(33) .

"ولا تقف في صف نظام المساواة أعظم المزايا فحسب بل كذلك العدالة الدقيقة ... فكل إنسان حلقة، وحلقة لا غنى عنها في سلسلة النتائج التي تبدأ بفكرة وربما تنتهي بإنتاج قطعة من القماش. وهكذا، وإن لم تكن أذواقنا واحدة بالنسبة لمختلف المهن، فلا ينبغي أن نستخلص من ذلك أن عمل شخص ما ينبغي أن يلقى جزاء أفضل من عمل شخص آخر، وسيحصل المخترع على الدوام - فضلاً عن جائزته المالية - على تقديرنا الذي لا يمكن إلا للعبقري أن يحصل عليه منا…".

"وبحكم طبيعة العمل والتبادل ذاتها فإن العدالة الدقيقة لا تتطلب فقط أن يستفيد كل المتبادلين فوائد متبادلة فحسب بل متساوية كذلك. فليس هناك سوى شيئين يتبادلهما الناس ألا وهما العمل وناتج العمل. وإذا جرت المبادلات وفق نظام عادل فإن قيمة كل المواد ستتحدد بالتكلفة الكلية للإنتاج والقيم المتساوية لا بد دائماً أن تتبادل بقيم متساوية. فإذا أنفق صانع القبعات مثلاً يوماً في صنع قبعة، وأنفق صانع الأحذية الوقت نفسه في صنع زوج من الأحذية - وإذا افترضنا أن للمواد الأولية التي استخدمها كل منهما القيمة نفسها - وبادلا هاتين السلعتين فيما بينهما، فإنهما لا يستفيدان فحسب فائدة متبادلة بل متساوية ولا يمكن للميزة التي تترتب الطرف أن تكون في غير صالح الطرف الآخر، لأن كلاً منهما قد أعطى الكمية نفسها من العمل، ولأن المواد التي استخدماها كانت متساوية في القيمة، ولكن لو أن صانع القبعات حصل على زوجين من الأحذية مقابل قبعة واحدة، في ظل افتراضنا الأول عينه، فمن الواضح أن التبادل سيكون غير عادل وسيسرق صانع القبعات من صانع الأحذية يوم عمل ولو أن الأول قد تصرف بهذه الطريقة في كل مبادلاته فإنه سيحصل مقابل عمل نصف سنة على منتجات شخص آخر لعام كامل. ونحن حتى الآن قد اتبعنا دائماً هذا النظام غير العادل تماماً للمبادلات فالعمال قد أعطوا الرأسمالي عمل عام بأكمله مقابل قيمة نصف عام فقط - ومن هنا، وليس من عدم مساواة مفترضة في القوى البدنية والعقلية بين الأفراد، نشأت عدم المساواة في الثروة والقوة، فعدم المساواة في المبادلات والاختلاف بين ثمن المشتريات وثمن المبيعات لا يمكن أن يوجد إلا بشرط أن يظل الرأسماليون إلى الأبد رأسماليين، والعمال عمالاً، الأولون طبقة من الطغاة والآخرون طبقة من العبيد.... ومن هنا فإن هذه الصفقة بأسرها تبين بوضوح أن الرأسماليين والملاك لا يفعلون أكثر من أن يعطوا العامل مقابل عمله أسبوعاً جزءاً من الثروة التي حصلوا عليها منه في الأسبوع السابق! - مما يعني أنهم يدفعون له لا شيء مقابل شيء... إن كل الصفقة بين العامل والرأسمالي مهزلة حقيقية إنها ليست في الواقع - في آلاف الأمثلة - سوى سرقة مكشوفة وإن كانت مشروعة "(34) .

"ولن يكف ربح صاحب العمل عن أن يكون خسارة للعامل - حتى تصبح المبادلات بين الأطراف متساوية ولا يمكن أن تكون المبادلات متساوية طالما ظل المجتمع منقسماً إلى رأسماليين ومنتجين، وطالما ظل الأخيرون يعيشون على عملهم بينما ينتفخ الأولون يربح هذا العمل ....."

ويستطرد براي قائلاً :

"ومن الواضح أنه أياً كان شكل الحكومة الذي تقيمه.... ومهما دعونا إلى الأخلاق والحب الأخوي ... فلا يمكن أن يوجد تبادل منافع حيثما توجد مبادلات غير متساوية. فعدم المساواة في المبادلات - باعتباره سبباً لعدم المساواة في الملكيات - هو العدو الخفي الذي يفترسنا».

".... إن اعتبار هدف المجتمع وغايته يتيح لي أن استخلص ليس فقط أن كل الناس ينبغي أن يعملوا - وبذا يستطيعون أن يتبادلوا - فحسب، وإنما كذلك أن القيم لا بد أن تتبادل بقيم متساوية. وفضلاً عن ذلك فلما كان ربح امرئ ما لا بد إلا أن يكون خسارة لآخر فإن القيمة ينبغي أن تتحدد بتكلفة الإنتاج، لكننا رأينا أنه في ظل النظام الاجتماعي الراهن فإن ربح الرأسمالي والثري هو دائماً خسارة للعامل - وأن هذه النتيجة ستقع حتماً، ويترك الفقير كلية تحت رحمة الغني، في ظل أي شكل للحكومة، طالما كانت هناك لا مساواة في المبادلات - وأن المساواة في المبادلات لا يمكن أن يكفلها إلا نظام اجتماعي يعترف بطابع العمل الكلي....وستؤدي المساواة في المبادلات بالتدريج إلى انتقال الثروة من أيدي الرأسماليين الحاليين إلى أيدي الطبقات العاملة "(35) .

"وطالما ظل نظام عدم المساواة في المبادلات هذا سارياً فسيكون المنتجون دائماً على ما هم عليه حالياً من فقر وجهل وإجهاد حتى لو الغيت كل الضرائب وكل الأعباء الحكومية... ولا يمكن إلا للتغيير الكامل للنظام، وإدخال المساواة في العمل وفي المبادلات، أن يغير هذا الوضع للأمور، ويكفل للناس المساواة الحقيقية في الحقوق. وليس على المنتجين إلا أن يبذلوا جهداً وينبغي أن يكونوا هم الذين يبذلون كل جهد لخلاصهم 

        -     وستتحطم أغلالهم إلى الأبد. فالمساواة السياسية كفاية ليست سوى خطأ، وكوسيلة فإنها أيضاً خطاء".

"ومع المساواة في المبادلات فإن ربح إنسان ما لا يمكن أن يكون خسارة لآخر لأن كل تبادل لن يكون أكثر من نقل للعمل والثروة ولا يتطلب أي تضحية. وهكذا فبالرغم من أنه في ظل نظام اجتماعي يقوم على المساواة في المبادلات يمكن للمنتج أن يصل إلى الثروة عن طريق مدخراته فإن ثروته لن تكون أكثر من ناتج عمله المتراكم إنه قد يبادل ثروته، أو يعطيها لآخرين، لكن من المستحيل عليه أن يظل غنياً فترة طويلة من الوقت بعد أن يكف عن العمل: فبالمساواة في المبادلات تفقد الثروة ما لها حالياً من قوة خلاقة تبدو وكأنها تولد ذاتها فهي لا تعود قادرة على أن تملا الفراغ الذي يخلقه الاستهلاك، فما لم تتجدد الثروة بالعمل فإنها تضيع إلى الأبد حالما تستهلك. ولما أمكن ما تسميه الآن الربح والفائدة أن يوجدا في ظل نظام المبادلات المتساوية، لأن المنتج والموزع سيحصلان على مكافأة متماثلة، ولأن المجموع الإجمالي لعملهما هو الذي سيحدد قيمة كل سلعة تخلق وتوضع في متناول المستهلك ....

"وهكذا فإن مبدأ المساواة في المبادلات لا بد بحكم طبيعته ذاتها أن يكفل العمل الكلي"(36).

وبعد أن دحض براي اعتراضات الاقتصاديين على الشيوعية يمضي فيقول :

"وهكذا فإذا كان تغيير الطابع ضرورياً لنجاح النظام الاجتماعي للمشاعة في أكمل أشكاله، وإذا كان النظام الحالي - من الناحية الأخرى - لا يوفر الظروف أو التسهيلات المرغوبة لإحداث هذا التغيير في الطابع، وإعداد الإنسان للحالة الأفضل التي نريدها جميعاً، فإن من الواضح أن الأمور لا بد بالضرورة أن تظل على ما هي عليه، ما لم تكتشف وتطبق خطوة اجتماعية تمهيدية حركة تأخذ شيئاً من النظام الحالي وشيئاً من النظام المقبل (نظام المشاعة) - فترة استراحة وسيطة، يمكن للمجتمع أن يصل إليها بكل تجاوزاته وحماقاته لكيما ينطلق منها بعد ذلك وقد اغتنى بتلك الصفات والسمات التي تمثل الشروط الحيوية لنظام المشاعة" (37) .

"اولا تتطلب الحركة بأسرها إلا التعاون في أبسط أشكاله… وستحدد تكلفة الإنتاج قيمة الناتج في كل حالة، ويجري تبادل القيم المتساوية بقيم متساوية، وإذا عمل شخص ما أسبوعاً بأكمله ولم يعمل آخر سوى نصف أسبوع فإن الأول يحصل على ضعف مكافأة الثاني. لكن هذا المبلغ الزائد لن يتقاضاه شخص على حساب الآخر ولن تقع الخسارة التي يتحملها الأخير بأي حال على كاهل الأول وسيبادل كل امرئ الأجر الذي يحصل عليه فردياً بمواد لها نفس قيمة أجره، ولن يكون الربح الذي يحققه إنسان أو صناعة خسارة لإنسان آخر أو صناعة أخرى وسيصبح عمل كل فرد هو المقياس الوحيد لأرباحه وخسارته…".

"وعن طريق هيئات المهن العامة والمحلية يمكن تحديد كميات مختلف المواد اللازمة للاستهلاك، والقيمة النسبية لكل منها بالنسبة للأخرى (عدد العمال المستخدمين في كل فرع من فروع العمل)، وباختصار كل ما يتعلق بالإنتاج وبالتوزيع الاجتماعي. ويمكن أن تجري هذه العمليات بالنسبة للأمة بالسهولة عينها وفي الوقت القصير عينه الذي تستغرقه بالنسبة لشركة خاصة في ظل النظام الحالي ... وسيتجمع الأفراد في عائلات والعائلات في مشاعيات كما يجري في ظل النظام القائم... وحتى لا نلغي مباشرة توزيع السكان بين المدن والقرى على سوته. وفي ظل هذا الاتحاد سيظل كل فرد يتمتع بما لديه الآن من حرية في أن يجمع قدر ما يريد، وأن يستخدم ما يجمعه بالطريقة التي تروق له ... وسيكون مجتمعنا - إذا أمكن القول - شركة مساهمة كبيرة، تتألف من عدد غير محدود من الشركات المساهمة الصغيرة وكلها تعمل، وتنتج، وتتبادل منتجاتها على أساس أكمل مساواة ... وسيقوم نظامنا الجديد للشركة المساهمة - وهو ليس أكثر من تنازل نقدمه للمجتمع الحالي من أجل الوصول إلى الشيوعية، والقائم على التعايش بين الملكية الفردية للمنتجات والملكية المشتركة للقوى الإنتاجية - بجعل مصير كل فرد معتمداً على جهوده هو، ويتيح له مشاركة مساوية في كل ميزة توفرها الطبيعة وتقدم الفنون، وبذا يستطيع أن يجري تغييرات لاحقة (38)

ولم نعد في حاجة الآن إلا أن نرد ببضع كلمات على براي ـ الذي استطاع دوننا وبالرغم منا أن يحل محل برودون، فيما عدا أمر واحد هو أن براي لا يزعم أن لديه آخر كلمة قالتها الإنسانية وإنما هو يقترح إجراءات يعتقد أنها مناسبة لفترة انتقال بين المجتمع الحالي والنظام المشاعي.

إن ساعة عمل عَمْر تُتبادل مع ساعة عمل «زيد». هذا هو مبدأ براي الأساسي.

فلنفترض أن لدى عَمْر اثنتي عشرة ساعة عمل وليس لدى زيد سوى ست ساعات إن عمر لن يكون قادراً على أن يتبادل مع زيد إلا ست ساعات مقابل ست ساعات.

وستبقى لدى عمر بعد ذلك ست ساعات عمل فائضة. فماذا سيصنع بهذه الساعات الست من العمل.

إما أنه لن يفعل بها شيئاً، وفي هذه الحالة سيكون قد عمل ست ساعات مقابل لا شيء وإما أنه سيبقى خاملاً ست ساعات أخرى لكي يتعادل أو أنه - كوسيلة أخيرة - سيعطي هذه الساعات الست - التي ليس فيها نفع له ـ لزيد (فوق البيعة).

فماذا في النهاية سيكون عمر قد حصل عليه أكثر من زند؟ ساعات عمل؟ كلا! لن يكون قد كسب سوى ساعات من الفراغ وسيجبر على أن يلعب دور الخامل ست ساعات ولكي يكون هذا الحق الجديد في الخمول لا مستحباً فحسب بل منشوداً في المجتمع الجديد فسيكون على هذا المجتمع أن يكتشف في الكسل أرقى متعة، وأن يرى في العمل قيداً ثقيلاً ينبغي أن يتحرر منه مهما كان الثمن. وفضلاً عن هذا - إذا عدنا إلى مثلنا - فهل ساعات الفراغ هذه التي كسبها عَمْر عن زيد تعد كسباً حقيقياً؟ كلا على الإطلاق. إن زيد وقد بدأ بالعمل ست ساعات فقط يحقق بالعمل الثابت المنتظم نتيجة لا يحققها عمر إلا بالبدء بزيادة في العمل، وسيرغب كل أمرى في أن يكون زيداً، ستكون هناك منافسة لاحتلال مكان زيد منافسة في الكسل.

حسن إذا ما الذي جلبه لنا تبادل كميات متساوية من العمل؟ فائض الإنتاج وانخفاض القيمة، العمل الزائد تعقبه البطالة، وباختصار علاقات اقتصادية كتلك التي تراها في المجتمع الحالي مطروحاً منها المنافسة في العمل.

كلام إننا مخطئون فما زالت هناك وسيلة يمكن أن تنقذ المجتمع الجديد المجتمع الذي يتألف من أمثال عمر وزيد. وسيأكل عَمْر وحده ناتج ست ساعات العمل التي بقيت له. ولكن من اللحظة التي لم يعد عليه فيها أن يتبادل لأنه أنتج، لم تعد به أيضاً حاجة لأن ينتج لكي يتبادل، وستنهار كل فرضية المجتمع القائم على التبادل وتقسيم العمل، وسنكون قد أنقذنا المساواة في المبادلات بوسيلة بسيطة هي أن تكف المبادلات عن الوجود وسيصل زيد وعمر إلى وضع شخصية روبنسون كروزو المعزولة في جزيرة.

 وهكذا فإذا افترضنا كل أفراد المجتمع عمالاً مباشرين فإن تبادل كميات متساوية من ساعات العمل ليس ممكناً إلا بشرط الاتفاق مقدماً على عدد الساعات التي ينبغي أن تنفق في الإنتاج المادي. لكن مثل هذا الاتفاق ينفي التبادل الفردي.

وسنصل إلى النتيجة نفسها أيضاً إذا لم نأخذ كنقطة بدء لنا توزيع المنتجات وإنما فعل الإنتاج. ففي الصناعة الكبيرة ليس عمر حراً في أن يحدد بنفسه وقت عمله، لأن عمل عمر ليس شيئاً دون تعاون كل أمثال عمر وزيد الذين يشكلون الورشة. وهذا ما يفسر جيداً المعارضة الشديدة التي أبداها التجار الإنكليز لقانون العشر ساعات لقد كانوا يعرفون جيداً أن تخفيض عمل النساء والأطفال ساعتين سيجلب معه تخفيضاً مماثلاً في ساعات عمل الرجال البالغين، فمن طبيعة الصناعة الكبيرة أن تكون ساعات العمل متساوية للجميع. وما هو اليوم نتيجة لرأس المال والمنافسة بين العمال سيكون غداً - إذا قطعنا العلاقة بين العمل ورأس المال - اتفاقاً فعلياً يقوم على العلاقة بين مقدار القوى الإنتاجية ومقدار الاحتياجات القائمة.

لكن مثل هذا الاتفاق إدانة للتبادل الفردي، وها نحن نعود ثانية إلى نتيجتنا الأولى! 

ومن حيث المبدأ ليس ثمة تبادل للمنتجات - وإنما هناك تبادل للعمل الذي تعاون في الإنتاج. ويتوقف أسلوب تبادل المنتجات على أسلوب تبادل القوى الإنتاجية وبشكل عام يتمشى شكل تبادل المنتجات مع شكل الإنتاج غير هذا الأخير وسيتغيّر الأول بالتبعية وهكذا نرى في تاريخ المجتمع أن أسلوب تبادل المنتجات يضبطه أسلوب إنتاجها، وكذلك يتمشى التبادل الفردي مع أسلوب محدد للإنتاج يتجاوب بدوره مع التناحر الطبقي. وهكذا فليس هناك تبادل فردي دون تناحر طبقي. 

لكن الضمائر الشريفة ترفض أن ترى هذه الحقيقة الواضحة فطالما كان الإنسان بورجوازياً فإنه لا يستطيع إلا يرى في علاقة التناحر هذه علاقة من الانسجام والعدالة الأبدية، لا تسمح لأحد بأن يكسب على حساب الآخر. وبالنسبة للبورجوازي يمكن أن يوجد التبادل الفردي دون التناحر الطبقي : إنهما شيئان منفصلان كل الانفصال بالنسبة له وليس ثمة وجه للشبه بين التبادل الفردي كما يتصوره البورجوازي، والتبادل الفردي كما يمارسه.

ويحول براي وهم البورجوازي الشريف إلى مثل أعلى بود بلوغه، وهو يعتقد أنه بتطهير التبادل الفردي، وتخليصه من كل ما يجد فيه من عناصر متناحرة، يجد علاقة "تحقق المساواة يود لو نقلها إلى المجتمع.

ولا يرى براي أن هذه العلاقة التي تحقق المساواة، هذا المثل الأعلى المصحح الذي يود أن يطبقه على العالم ليس سوى انعكاس للعالم الفعلي، وأن من المستحيل هو نفسه تماماً بالتالي أن نعيد بناء المجتمع على أساس شيء لا يعدو أن يكون شبحاً مزخرفاً له وبقدر ما يتجسد هذا الشبح ثانية فستتبين أن هذا الجسد ليس الحل الذي حلموا به، بل هو الجسد الفعلي للمجتمع الحالي(39).


(1) برودون م س المجلد الأول، ص 68

(2) تبدأ الفترة المشار إليها منذ انتهاء حروب نابليون وعودة أسرة البوربون إلى فرنسا في عام 1815 - المترجم.

RICARDO: Principes de l'économie politique, etc. Traduits de l'anglais par J.S. Constancio, Paris, 1839, t.I, p.3.(3)

(4)م ن، ص 4 و5.

(5) م ن، ص 5.

(6) م ن، ص 5.

(7) العنوان الكامل للمرجع هو آدم سميث بحث في طبيعة وأسباب ثروة الأمم . وقد ظهرت طبعته الأولى في لندن عام 1776 المترجم.

(8) ريكاردو، م من المجلد الأول، ص 8

(9) م ن

(10) م ن، المجلد الأول، ص 10-9

(11) م ن ص 21

(12)  يقول إنجلس في الهامش: "عند ريكاردو القيمة النسبية هي القيمة معبراً عنها بالنقود".

(13) ريكاردو، م س، المجلد الأول، ص 28

(14) من المعروف أن ريكاردو يحدد قيمة السلعة بكمية العمل اللازم لإنتاجها. غير أنه نتيجة لشكل التبادل السائد في كل نظام للإنتاج يقوم على الإنتاج السلعي - بما في ذلك بالتالي النظام الرأسمالي - فإن هذه القيمة لا تجد تعبيراً مباشراً عنها بكمية العمل، وإنما بكمية سلعة أخرى. ويسمي ريكاردو قيمة السلعة معبراً عنها بكمية سلعة أخرى (سواء كانت نقوداً أو لم تكن) القيمة النسبية [ملحوظة لفريدريك إنجلس في الطبعة الألمانية لعام 1885].

(15) ريكاردو م س المجلد الأول، ص 32

(16) م ن، ص 105

(17) م  ن، المجلد الثاني ص 253

(18) ريكاردو، م س، المجلد الثاني، ص 259

(19) ريكاردو ،م س المجلد الثاني، ص 253

(20) إن الصيغة القائلة إن الثمن الطبيعي أي العادي لقوة العمل يتفق مع الحد الأدنى للأجور، أي لما يعادل من حيث القيمة وسائل المعيشة التي لا غنى عنها إطلاقاً لحياة العمال وتكاثرهم، هذه الصيغة قد طرحتها أولاً في مقدمة نقد الاقتصاد السياسي» (الحوليات الفرنسية الألمانية - باريس (1844) وفي أوضاع الطبقة العاملة في إنجلترا».
وكما ترى هنا فإن ماركس تقبل هذه الصيغة في ذلك الوقت. وقد أخذها لاسال عنا كلينا ولكن إذا كان صحيحاً أن الأجور في الواقع نتجه على الدوام إلى الاقتراب من حدها الأدنى فإن الصيغة السابقة مع هذا غير صحيحة فحقيقة أن قوة العمل تتلقى - بشكل عام وفي المتوسط - أقل من قميتها لا يمكن أن تغير هذه القيمة. وقد صحح ماركس هذه الصيغة في رأس المال القسم الخاص بشراء وبيع قوة العمل) وكذلك حلل في الفصل الثالث والعشرين القانون العام التراكم رأس المال الظروف التي تسمح للإنتاج الرأسمالي بأن يهبط بثمن قوة العمل أكثر وأكثر إلى أدنى من قيمتها (ملاحظة الإنجلس للطبعة الألمانية في 1885).

(21)أداة يستخدمها النجار لتسوية الخشب، ويطلق عليها أيضاً اسم «الفأرة» المترجم

(22) برودون، م س، المجلد الأول، ص 61 و 188.

(23)وحتى يعيش، يفقد كل سبب للعيش، (ملاحظة من التحرير).

(24) ریکاردو، م س، المجلد الأول، ص 105 و 108.

(25) م ن، المجلد الثاني، ص 59

SISMONDI: Etudes, etc., Edition de Bruxelles. t.II. p. 267.(26)

(27) BOISGUILLEBERT: Dissertation sur la nature des richesses, Edit. Daire.

W. ATKINSON: Principles of Political Economy. Londres 1840, pp. 170-195.(28)

(29)الم تعد هناك طروادة»، (ملاحظة من التحرير).

(30) راجع أعلاء، ص 53 مقدمة الطبعة الألمانية الثانية»، (ملاحظة من التحرير).

(31) م ن.

BRAY: Labour Wrongs and Labour's Remedy. Leeds 1839, pp. 17 et 41.- (32)

(33) براي م س ص 33 و 36 و 37.

(34) براي م س ص 45 و 48 49 50

(35) براي م س ص 51 و 52 و 53 و 55.

(36) براي م س ص 67 و 88 و 89 و 94 و 109.

(37) براي م س ص 134

(38) براي م س ص 158 و 160 و 162 و 168 و 194 و 199.

(39) وجدت نظرية براي - ككل النظريات أنصاراً تركوا المظاهر تخدعهم. وهكذا أقيمت في لندن وشيفيلد وليدز وكثير من المدن الأخرى في إنجلترا أسواقاً لتبادل العمل المتساوي. وانتهت هذه الأسواق كلها بالفشل الذريع بعد أن بددت قدراً كبيراً من رأس المال، وانقضى الميل إليها إلى الأبد وهذا تحذير إلى برودون [ملحوظة لماركس].