الماركسية والحزب |
الكاتب:جون مولينو |
الفصل الأول: كارل ماركس: الطبقة والحزب
الفصل الثاني: لينين وميلاد البلشفية
كـُتِب هذا الكتاب فى منتصف السبعينات، وشأنه شأن أي عمل آخر، فهو يحمل ملامح عصره. كانت بداية السبعينات في بريطانيا سنوات صراع قوي وناجح للطبقة العاملة: بلغ قمته فى تدمير "قانون العلاقات الصناعية" التابع لحكومة المحافظين بواسطة عمال الميناء والهندسة، وفك تجميد الأجور الذي قام به عمال المناجم فى 1972، وأخيراً إسقاط حكومة المحافظين التابعة لإدوارد هيث بواسطة إضراب عمال المناجم فى 1974. كانت هناك بالطبع بعض الهزائم، ولكن بشكل عام، كانت الصورة تظهر حركة عمالية متصاعدة. وعلى الصعيد العالمي، كانت هناك أسباب أيضاً تدعو للتفاؤل. حيث كانت ذكرى عام 1968 الرائعة لا تزال في الأذهان، بهجوم التت في فيتنام، وأحداث مايو الدرامية في فرنسا، والانتفاضات الطلابية المنتشرة فى جميع أنحاء العالم، وتمرد السود في مختلف المدن بالولايات المتحدة الأمريكية. بالإضافة إلى كل ذلك، فإن عام 1968 قد أعقبه "الصيف الساخن" للعمال الإيطاليين فى 1969، والهزيمة المنكرة للأمريكان فى فيتنام، والثورة البرتغالية فى 1974 بكل عواقبها فى إفريقيا. ومرة أخرى كانت هناك هزائم، خاصة مأساة انقلاب شيلي في 1973. ولكن عموماً، بدا وكأن العملية الثورية العالمية قد بدأت تشق طريقها. وبدا على الأخص أن القوى الثورية الحقيقية للماركسية بدأت أخيراً فى سحب نفسها من الهوامش الخارجية للحياة السياسية، حيث حوصرت منذ صعود الستالينية في العشرينات. وفي بريطانيا، تحول الاشتراكيون الأمميون (الآن حزب العمال الاشتراكي) من مجموعة صغيرة للدعاية مكونة من مائتي فرد إلى حزب صغير حيوى يضم بضعة الآف، ذى قاعدة صغيرة ولكن جادة في صفوف الطبقة العاملة. وأصبح في أوروبا عدد من المجموعات المبشرة ذات حجم مساوى أو أكبر، أتسمت سياساتها (بالرغم من الارتباك بسبب التأثير القوى للماوية) بالثورية وأنها ذات توجه واضح نحو الطبقة العاملة. تماماً كما صورها كتاب الماركسية والحزب فقد كان هناك "بزوغ لمنظمات كبيرة فى عدة دول (ليست أحزاب جماهيرية، وإنما من الكبر بحيث تمثل بدايات جادة) تهدف جميعها إلى بناء الحزب الثوري". كان المنظور الضمني لكتاب الماركسية والحزب هو أن تلك الاتجاهات سوف تستمر، وأن أحزاباً ثورية حقيقية سوف تنمو وتتطور، ليس فى بريطانيا وحدها، بل في عدد من البلدان الأخرى. ولكن للأسف، يجب أن نعترف أن هذه الرؤية لم تتحقق. فعموماً قد أصبحت اليوم الحركات العمالية في الدول الرأسمالية المتقدمة، ومعها قوى الاشتراكية الثورية، بشكل أو بآخر أضعف حالاً من عقد مضى. وفي بريطانيا تتمثل النقلة في ميزان القوى الطبقية فى المصير المتناقض للإضراب الذين قام بهما عمال المناجم فى 1974 و4-1985. حيث كانت الهزيمة فى 1985 هي الذروة ونتيجة سلسلة طويلة من التراجعات التى أضعفت تلاحم وكفاحية الحركة العمالية. وتكمن خلف عملية تغير ميزان القوى الحقيقة المتعلقة ببزوغ الأزمة الاقتصادية العالمية، والتى طال انتظارها، فى 1974، واستمرارها إلى يومنا هذا (مقطوعة بفترات انتعاش قصيرة)، والتي لم ينتج عنها تثوير جموع العمال كما توقع الاشتراكيون الثوريون. فعلى العكس تولد إحساس بالإحباط. فقد فضح الكساد الطويل مدى إفلاس الوعي النقابي الإصلاحي الذي تسيد الحركة العمالية، ولكن لم يتزامن ذلك الإفلاس مع حركة قوية بالشكل الكافى للثوريين، تمكنهم من تمثيل مصدر جذب بديل. ذلك أن العمال الذين كانوا على استعداد للهجوم وتحقيق انتصار بعد انتصار عند اعتقادهم بأن الأحوال المادية ميسورة، (وبعضهم توصل لاستنتاجات ثورية خلال تلك العملية)، هؤلاء أصبحوا أكثر حذرًا، وتمهلا فى خوض المعارك عندما بدءوا يستشعرون أن صاحب العمل قد يضار حقاً أو أن "حال البلد لن يتحمل المزيد من الضغوط". تلك على كل حال تعميمات واسعة، يقابلها بالطبع إستثناءات عديدة واتجاهات مخالفة. فعلى الصعيد العالمى حدثت نضالات عظيمة وانتصارات بارزة مثل حركة التضامن في بولندا، وثورة الساندينيستا فى نيكاراجوا، والإطاحة بالشاه في إيران، وغيرهم. ولكن لسبب أو لآخر لم تقدم أي من هذه الأحداث للاشتراكية الثورية نفس الإلهام العالمي الذي قدمته أحداث مايو 1968، أو الهزيمة الأمريكية فى فيتنام. بل كانت النتيجة، فترة هزيلة لليسار الثوري، استطاعت خلالها المنظمة التي أنتمي إليها (حزب العمال الاشتراكي) أن تبقي على نفسها وتحقق القليل من النمو فى وقت انكمشت فيه أحزاب ثورية أخرى، أو انهارت، أو انتقلت إلى اليمين. ولكن على الرغم من هذه النتيجة المعتمة، إلا أنني أعتقد أن الأفكار الأساسية لكتاب الماركسية والحزب مازالت ذات دلالة فى أوضاعنا الحالية. فالهزائم والتراجعات التي حدثت في العقد الماضي لم تكن نتيجة وجود، بل بالأحرى غياب ذلك النوع من الأحزاب الماركسية التي أدعو إليها فى هذا الكتاب. وقد جعلت تلك الهزائم من الأصعب بناء مثل هذه الأحزاب، ولكنها في الوقت نفسه أكدت ضرورة مواصلة المحاولة. بالإضافة إلى ذلك، تظل المحاولة ممكنة، بالنظر لكون الهزائم - رغم أهميتها - تعتبر جزئية أكثر منها شاملة. فالحركة العمالية، أي نعم ضعفت، ولكنها لم تتفكك أو تنسحق كما حدث فى تلك الدول الأوربية التي خضعت للفاشية بين الحربين العالميتين أو في الاتحاد السوفيتي تحت حكم ستالين. وهكذا يستمر وجود صراعات عمالية يمكن للثوريين أن يرتبطوا بها، ويستمر وجود أقلية -متنامية- من العمال لا يرغبون فقط فى القتال وإنما أيضاً يريدون تفسيرات لاخفاقات الماضي ويتطلعون لأفكار وإستراتيجيات يمكن أن تقود للنصر فى المستقبل. إن الحاجة للحزب الثوري مطروحة بوضوح فى بريطانيا بعد التحولات الأخيرة فى حزب العمال البريطاني. فتدهور اليسار الذي تشكل حول توني بِن منذ 1982 والتحول نحو اليمين تحت قيادة نيل كينوك يمثلان قضايا تواجه كل اشتراكي مخلص في حزب العمال بضرورة القطع مع الإصلاحية. فقد أصبح الآن واضحاً أن حكومة المستقبل العمالية تحت زعامة كينوك (أو حكومة ائتلافية بين العمال والحزب الاشتراكي الديمقراطي) ستكون كارثة للطبقة العاملة. بل من الممكن أن تكون أسوأ من إدارة ويلسون - كالاهان في نهاية السبعينات، ما لم تواجه بمقاومة جماعية مكثفة من أسفل. وفي وسط هذه المقاومة يجب أن يتواجد الحزب الماركسي الثوري معطياً إياها التماسك والرؤية. وكنتيجة لذلك فأنه لو أتيح لي الوقت لإعادة كتابة ومراجعة الماركسية والحزب اليوم (وهو الشيء الذى لا أفعله)، ستبقى الخطوط الأساسية للأطروحة واستنتاجاتها الرئيسية كما هي. فالحالة تبقى - كما كتبت وقتها - أن بناء الأحزاب الثورية وتوحيدها عالمياً هو الآن الواجب الرئيسي والعاجل والإستراتيجي الذي يواجه الاشتراكيين الثوريين فى جميع أنحاء العالم. وما لم يتحقق هذا، ستبقى الطبقة العاملة غير قادرة على حل أزمة الرأسمالية - التي تزداد حدتها كل يوم - لصالحها. على كل حال سيكون هناك بالطبع تغييرات معينة فى التفصيلات، أهمها تقييم جرامشي. ما زلت أعتبر جرامشي ماركسي ثوري عظيم له العديد من الإضاءات الهامة، لكن بالتعرض له اليوم سأقدم مساهمة أقل حجماً بخصوص تعرضه لنظرية الحزب، وسأفرد مساحة أكبر للدفاع بشدة عن جرامشي ضد تفسيرات "الشيوعية الأوروبية" والتفسيرات المشوهة للماركسية الأكاديمية التي تعتبره إصلاحياً ونبي الجبهة الشعبية و"التحالف الديمقراطي الواسع". هذه النقاط مترابطة، فمن الواضح لي أنه على الرغم من أن جرامشي كان ثورياً مؤمناً بضرورة الانتفاضة المسلحة، والسوفيتات، وتدمير الدولة الرأسمالية، فأن أغلب صياغاته -عن "حرب المواقع" التي تحل محل "حرب المناورة"، والعلاقة بين الدولة والمجتمع المدني، والفروق بين روسيا وأوربا الغربية- كانت غير دقيقة ومشوهة، ومن ثم فتحت الباب للتفسير الإصلاحي، الذي ما كان جرامشي نفسه إلا ليرفضه. وكما أعتقد، فإن الفصل المكتوب عن جرامشي يجب أن يُقرأ جنباً إلى جنب مع ورقة كريس هارمان عن جرامشي ضد الإصلاحية (لندن 1983) التي تمدنا بالتصحيح اللازم. بالإضافة إلى ذلك، كان على أن أخصص أيضاً مساحة أوسع لمفهوم الحزب والطبقة المتضمن في كتابات تروتسكي الإستراتيجية في الفترة 1928 - 1937، أو في قول آخر، انتقاده "للفترة الثالثة" اليسارية المتطرفة الستالينية - التي شقت صفوف الطبقة العاملة في مواجهة هتلر، وما أستتبعها من انتهازية في فترة الجبهة الشعبية. أثبتت تلك الكتابات مدى ارتباطها ونفعها فى السنوات القريبة الماضية وحتى اليوم. فمن ناحية، شكلت تلك الكتابات الخلفية النظرية الأساسية للنضال ضد صحوة النازية -التي كشفت عن نفسها في بريطانيا في النصف الثاني من السبعينيات، والتي لا تزال مستمرة اليوم بفرنسا. ومن ناحية أخرى، تعد تلك الكتابات نقطة انطلاق النقد الماركسي للإستراتيجية الحالية للـ"شيوعية الأوروبية"، وللعديد من اليساريين الآخرين، وإصلاحيين على هامش اليسار. وعلى القارئ الذي يريد الإلمام بهذه المسألة، الرجوع إلى كتاب دانكان هالاس ماركسية تروتسكي (لندن 1985). رغم ما سبق، إلا أن هناك شيئاً واحدا لم يتغير خلال العقد الماضي، وهو الحاجة الملحة لإسقاط الرأسمالية، إذا كان للإنسانية. أن تتقدم، بقيادة الطبقة العاملة، من تحت عتمة السحابة النووية الكثيفة. فإذا استطاع هذا الكتاب أن يساهم فى هذه العملية بأي شكل، فهو قد حقق هدفه. وأقدم شكري الخاص لتوني كليف على انتقاداته واقتراحاته القيمة وعلى عمله كمحرر. ولأنيتا بروملي على كتابة أجزاء كبيرة من مخطوط هذا الكتاب على الآلة الكاتبة. ولجيل وسارة وجاك لأنهم صبروا على كثير من العطلات الضائعة. جون مولينو سبتمبر 1985
الفصل الأول: كارل ماركس: الطبقة والحزب إن أساس جميع الاتجاهات الماركسية فى تحليل الأحزاب السياسية هو نظرية ماركس فى الصراع الطبقي. وتفسير الماركسيين لوجود أحزاب سياسية مختلفة ومتنافسة يكمن أساساً في البنية الاقتصادية للمجتمع، فتظهر الأحزاب السياسية إلى حيز الوجود وتجتذب الدعم وتواصل وظيفتها المبدئية كممثلة لمصالح طبقية. ومن الطبيعي أن تصبح هذه الفكرة - شأنها شأن أي مبدأ ماركسي - بلا معنى لو تم فهمها بطريقة فجة أو عقيمة. إن الأطروحة القائلة بأن الأحزاب السياسية تمثل مصالح طبقية لا تعنى أنها تفعل ذلك ضرورياً بطريقة مباشرة. إنها لا تعنى أنه فى جميع الحالات يمثل الحزب الواحد مصالح طبقة واحدة، أو أن مصالح طبقة ما - بالمعنى التاريخي - يمكن قصرها على الكسب الاقتصادي المباشر، أو أن كل ممارسات كل حزب يمكن تفسيرها بالرجوع إلى الطبقة التي يقوم عليها الحزب فقط. في الواقع لقد قدم التاريخ عدداً كبيراً من الأمثلة لكل نوع من الارتباط الطبقي-الحزبي منها أحزاب بدأت بتمثيل مصالح طبقة معينة ولكن ينتهي بها الأمر بتمثيل مصالح طبقة أخرى، ومنها أحزاب تحاول خدمة مصالح طبقتين أو حتى ثلاث طبقات فى نفس الوقت، ومنها أحزاب تخدم قطاع من طبقة فى مواجهة مصالح الطبقة ككل. ومنها أمثلة لحزبين أو ثلاثة صغار يتنافسون على أن يصبحوا الممثل الأوحد لنفس الطبقة. وهكذا ... فعلي سبيل المثال، لدينا اليوم ببريطانيا 3 أحزاب رئيسية: حزب المحافظين وهو أساساً حزب كبار الرأسماليين، ولكن يصوت له العديد من العمال، ويلقى تأييد قطاعات كبيرة من البرجوازية الصغيرة… حزب العمال ذو القاعدة الممتدة في منظمات الطبقة العاملة ويعتمد بالأساس على أصوات العمال الانتخابية، ولكن قيادته تنتمي للطبقة الوسطى ومتقبلة لاستمرارية النظام الرأسمالي، وهكذا تضطر في أحيان كثيرة إلى التحرك ضد مصالح قاعدتها العمالية… الحزب الليبرالي وهو بالأساس حزب برجوازي صغير يؤيده قلة من كبار الرأسماليين، ويكسب بعض الأصوات الانتخابية من صفوف الطبقة العاملة. وليس هنالك من هذه الأمثلة ما يفند الأطروحة الماركسية، ولكنها تؤكدها. كل ما يجب التأكيد عليه هو أن نقطة البدء الرئيسية فى تحليل الأحزاب السياسية -والسياسة بشكل عام - يجب أن تكون التركيب الطبقي للمجتمع المعني. إن تلك التشكيلات والتوليفات التي أشرنا إليها تنبع من حقيقة أن الطبقات لا تقف إلى جانب بعضها البعض ولكن الواحدة فوق الأخرى فى حالة من الصراع الحركي الدائم، والأحزاب السياسية تلعب دوراً رئيسياً فى ذلك الصراع. إن تركيبة معينة من الأحزاب السياسية تعكس مرحلة التطور النسبي الذي وصلت إليه مختلف الطبقات ومدى الهيمنة التي وصلت إليها طبقة ما على الطبقات الأخرى. من هنا فإنه عند التعامل مع النظريات الماركسية للحزب -وهذا محل اهتمام ماركس قبل كل شئ-لا يكون الاهتمام بنظرية محدودة ومنفصلة للتنظيم ولكن يكون دائماً بالعلاقة ما بين الحزب والطبقة. إن الأحزاب هي لحظات في تطور الطبقات. أراد ماركس أن يظهر القوى المحركة للتاريخ لكي يسهل صنع التاريخ. وهكذا لم تكن الطبقات ببساطة عبارة عن أشكال ساكنة بالنسبة لماركس، ولكنها جماعات اجتماعية تظهر إلى حيز الوجود عبر عمليات تاريخية وتمر بمراحل مختلفة من النمو والنضج. وقبل كل شئ تُعّرِف الطبقات نفسها عبر الصراع. فـ"يشكل الأفراد طبقة فقط للدرجة التي يكونون فيها منخرطين في صراع مشترك ضد طبقة أخرى".1 وفي سياق الصراع تكتسب الطبقات (أو تفقد) التماسك والتنظيم والثقة والوعي، فالأحزاب السياسية إذن هي أسلحة في الصراع بين الطبقات. في تحليل ماركس للرأسمالية "ينقسم المجتمع ككل بشكل مطرد إلى معسكرين كبيرين متنازعين، إلى طبقتين كبيرتين تواجهان بعضهما بشكل مباشر: البرجوازية والبروليتاريا".2 لم يكن ذلك إيماناً من ماركس بأن فئتي البرجوازية والبروليتاريا تشمل جميع من فى المجتمع الرأسمالي - وكان هذا سيكون غريباً إن أكد مثل هذه الحقيقة فى عام 1847. ما كان يطرحه هو أن الصراع بين البرجوازية والبروليتاريا متأصل وأساسي في النظام الرأسمالي. ففي الرأسمالية يتم الإنتاج على أساس استغلال الأجر والعمل. لهذا يكمن فى صميم الاقتصاد الرأسمالي تعارض دائم للمصالح، وهذا التعارض الأساسي يشكل كل مظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية، فكما يصفها ماركس في رأس المال: أنها دائماً العلاقة المباشرة بين ملاك أدوات الإنتاج والمنتجين المباشرين… تلك التي نجد فيها السر النهائي، والأساس الخفي للبناء الكامل للمجتمع، وهذا يشمل الأنماط السياسية للسيادة والتبعية، وباختصار الشكل المعطى المحدد للحكومات. 3 في التحليل الأخير تكون فاعلية الطبقات أو الشرائح الاجتماعية الأخرى محصورة في إطار البدائل التي تحددها الطبقتان الرئيسيتان. في النهاية لا يكون بوسعهم إلا أن يقفوا في صف إحدى هاتين الطبقتين. وكنتيجة لذلك، ومن وجهة النظر الماركسية، لا يكون المعيار الأساسي في تقييم الأحزاب السياسية ببساطة على أي طبقة تقوم، ولكن على موقعها من الصراع الطبقي بين البرجوازية والطبقة العاملة. ولكن عندما يتحدث المرء عن نظرية ماركس فى الحزب لا يكون الموضوع عن الأحزاب السياسية بشكل عام، ولكن عن الحزب الثوري الذي يهدف للإطاحة بالرأسمالية وبالتحديد يتحدث المرء عن مفهوم ماركس للحزب السياسي البروليتاري، ففي رأيه "أن البروليتاريا وحدها هي الطبقة الثورية الحقيقية… الطبقات الأخرى تتآكل وتختفي في النهاية أمام الصناعة الحديثة؛ في حين أن البروليتاريا هي النتاج الخاص والجوهري لهذه الصناعة".4 فالتوسع الرأسمالي يقوض التاجر الصغير والحرفي و المزارع الصغير والفلاح، ولكنه يزيد من حجم البروليتاريا. و"بنفس المقدار الذي تتطور به البرجوازية - أي رأس المال - تتطور البروليتاريا أو الطبقة العاملة الحديثة".5 فكلما توسع الإنتاج كلما تجمع العمال في وحدات أكبر وأكبر. "مع تطور الصناعة لا تزيد البروليتاريا في العدد فقط ولكن تصبح مركزة في تجمعات أكبر وتزداد قوتها ويزداد شعور البروليتاريين بهذه القوة". تقف البروليتاريا إذاً في قلب البنية الاقتصادية، وهي من ناحية الإمكانية أقوى طبقة مُستغَلة في التاريخ. وهذه القوة تعطى العمال القدرة على تحرير أنفسهم، وهذه القدرة تمثل عنصرا حيوياً فى نظرية ماركس للثورة. 6 والعنصر الثاني المساوي في الأهمية للعنصر الأول فى تقييم ماركس للطبقة العاملة هو أنها أول طبقة لا يكون نتيجة انتصارها شكلاً جديداً من المجتمعات الطبقية ولكن إلغاء كل الطبقات. وهذا الرأي يقوم على الطبيعة الجماعية بالضرورة للنضال العمالي. فلا يستطيع العامل الفرد سؤال مستخدمه زيادة أجره بأي فرصة للنجاح فى تحقيق هدفه، ولهذا يكون مرغما على الاتحاد مع زملائه. فالعامل لا يملك أياً من وسائل الإنتاج ولا يستطيع ذلك كفرد لأن الصناعة الحديثة لا يمكن تقسيمها وتجزئتها إلى ملايين الأجزاء. ولكي تستولي الطبقة العاملة على وسائل الإنتاج يجب أن تفعل ذلك بصورة جماعية وذلك من خلال الملكية الاجتماعية. إن تصميم ماركس على الطبقة العاملة كالطبقة الثورية الوحيدة (وأسبابه فى ذلك) يمكن تلخيصه من خلال موقفه من المرشح الآخر الأكثر وضوحاً لهذا اللقب وهم الفلاحون. في الوقت الذي عاش فيه ماركس شكل الفلاحون أغلبية ضخمة حتى فى معظم دول أوروبا وكانوا على الأقل فى نفس الفقر والبؤس كالبروليتاريا. بالإضافة إلى ذلك كان هنالك تراث طويل من هبات فلاحية عنيفة ولكن ماركس لم يضع اعتبارا لكل هذا بسبب الطبيعة الفردية والتجزيئية للطريقة الفلاحية فى الحياة: يشكل الفلاحون من صغار الملاك جمهورا ضخماً يعيش أعضاؤه فى ظروف متشابهة ولكن دون الدخول فى علاقات متشعبة مع بعضهم البعض. أن نمط إنتاجهم يعزلهم عن بعض بدلاً من إدخالهم في تفاعل متبادل. … وبهذه الطريقة يتشكل الجزء الأعظم من جماهير الأمة الفرنسية من خلال الإضافة البسيطة لكميات متشابهة، كما تشكل البطاطس في كيس؛ كيساً من البطاطس. تشكل الملايين من العائلات طبقة بحسب الدرجة التي يعيشون فيها تحت ظروف اقتصادية تميز نمط حياتهم ومصالحهم وثقافتهم عن الطبقات الأخرى، وتضعهم في مواجهة عدائية مع هذه الطبقات. ولا يشكل هؤلاء الفلاحين الصغار طبقة طالما علاقاتهم المتبادلة تتواجد فقط على المستوى المحلي، وطالما لا تخلق طبيعةُ مصالحهم مجتمعاً أو رابطةً قوميةً أو تنظيماً سياسياً. إنهم عديمو القدرة على فرض مصالحهم الطبقية بأنفسهم، سواء عن طريق البرلمان أو مؤتمر. لا يستطيعون تمثيل أنفسهم، ويجب أن يقوم أحد آخر بتمثيلهم. 7 إن قدرة الطبقة العاملة - على عكس الفلاحين - على تمثيل نفسها وبالتالي تحرير نفسها هو أمر جوهري بالنسبة لوضعها كطبقة ثورية ولقدرتها على خلق الحزب الثوري. وعلى أية حال لا يجب أن يخلط المرء إمكانية أن تقوم الطبقة العاملة بخلق حزبها الثوري بالواقع الملموس. فقد كان ماركس على دراية بالفجوة التي بين البروليتاريا كطبقة "في ذاتها" وبين البروليتاريا كطبقة "لذاتها"8 ، والطريق الطويل من النضال الذى يفصل بينهما. ولم يفت على ماركس أن يرى التأثير السلبي لمجتمع البرجوازية التنافسي على تنظيم ووحدة الطبقة العاملة: تفصل المنافسة الأفراد عن بعضهم البعض، ليس فقط البرجوازيون ولكن العمال أيضاً على الرغم من أنها تجمعهم سوياً. من هنا فأنه سوف يمر وقت طويل قبل أن يتحدد هؤلاء الأفراد ... لذا فأن التغلب على جميع القوى المنظمة الواقفة فى مواجهة هؤلاء الأفراد المعزولين الذين يعيشون فى ظروف تجعلهم يعيشون علاقات تعيد إنتاج عزلتهم يومياً يحتاج إلى صراع طويل. 9 وكان مدركاً أيضاً لقوة الأيديولوجية البرجوازية: أن الطبقة التي تتحكم في وسائل الإنتاج المادية تسيطر فى نفس الوقت على وسائل الإنتاج الذهنية. ومن هذا المنطلق، وبشكل عام، نجد أن أفكار هؤلاء الذين يفتقرون إلى وسائل الإنتاج الذهنية تخضع لهذه الطبقة. 10 لهذا كان تشكيل الحزب السياسي العمالي ضرورياً لمحاربة النزعة القوية نحو التفتت ولتحقيق استقلال البروليتاريا كطبقة. وفي الواقع كثيراً ما أكد ماركس أن العمال لا يمكن أن يعدوا طبقة بالمعنى الحقيقي للكلمة حتى يخلقوا حزبهم الخاص المتميز. من ذلك نجد فى البيان الشيوعي أن "تنظيم العمال في طبقة وبالتالي في حزب سياسي يتم تعطيله بشكل دائم وذلك بسبب المنافسة بين العمال أنفسهم"11 ، وكذلك في قرار مؤتمر لندن للأممية الأولى عام 1871 أن "البروليتاريا تستطيع أن تتصرف كطبقة فقط عن طريق تشكيلها لحزبها السياسي المستقل".12 وهذه الفكرة ظلت مركزية للنظرية والممارسة عند ماركس وإنجلز منذ منتصف أربعينات القرن الماضي وحتى نهاية حياتهما. وهذا ينقلنا إلى المشكلة الأساسية فى النظرية الماركسية للحزب، حيث يؤمن الماركسيون بأن الصراع الطبقي هو محرك التاريخ وأن "تحرير الطبقة العاملة يجب أن ينتزع بواسطة الطبقة العاملة نفسها"13 ، وفى نفس الوقت فأنهم يرغبون فى خلق حزب سياسي يمثل المصالح التاريخية للطبقة ككل. إذاً ماذا ستكون العلاقة بين هذا الحزب وجماهير الطبقة العاملة. تطرق ماركس بنفسه إلى هذه المشكلة فى جزء من البيان الشيوعي عنوانه "البروليتاريون والشيوعيون": ما هي علاقة الشيوعيين بالبروليتاريا ككل ؟ الشيوعيون لا يشكلون حزباً منفصلاً في مواجهة الأحزاب العمالية الأخرى. وليس لديهم مصالح منفصلة ومستقلة عن البروليتاريا ككل. وهم لا يطرحون مبادئ حلقية خاصة بهم يشكلوا ويقولبوا من خلالها الحركة البروليتارية. يتميز الشيوعيون عن الأحزاب العمالية الأخرى فقط بالآتي: 1) في النضالات المحلية للبروليتاريا في مختلف الدول يوضح الشيوعيون المصالح المشتركة للبروليتاريا ككل بشكل مستقل عن كل القوميات. 2) في المراحل المختلفة التي يمر بها بالضرورة نضال الطبقة العاملة ضد البرجوازية يمثل الشيوعيون دائماً وفي كل مكان مصالح الحركة ككل. يشكل الشيوعيون بالتالي ومن الناحية العملية القطاع الأكثر تقدماً وتصميماً من أحزاب الطبقة العاملة في كل بلد. ذلك القطاع الذي يدفع إلى الأمام كل القطاعات الأخرى. أما من الناحية النظرية فلديهم ميزة عن الجمهور العريض للبروليتاريا وهي الفهم الواضح لخط السير والظروف والنتائج العامة المنتظرة للحركة البروليتارية. 14 تلك الفقرات المكثفة والفذة تحوى بذرة حل مشكلة علاقة الحزب بالطبقة، كما تحوي سلسلة من الخطوط العريضة التي شكلت ممارسات الحركة الماركسية إلى يومنا هذا. بدايةً، استبعدت الفقرات النظرة التآمرية لدور الحزب كفرقة صغيرة من المغامرين تتصرف بالنيابة - وبشكل منفصل - عن الطبقة. كما استبعدت أيضاً الاتجاه السلطوي الذي يطرح أن الحزب يصدر الأوامر من أعلى وعلى الجماهير السلبية الطاعة، وكذلك الاتجاه الدعائي الصِرف؛ للعصبة التي تبشر بتعاليمها حتى تكسب بقية العالم. ترسخ الفقرات السابقة أيضاً مبدأ القيادة التي تُكتَسب على أساس الأداء فى الصراع الطبقي في خدمة الطبقة العاملة، وكذلك مبدأ رفع الأهداف الكلية للحركة العمالية داخل النضالات الاقتصادية والسياسية اليومية للعمال. ويفهم من طيات هذه السطور بذور الإستراتيجية الماركسية في الجبهة المتحدة15 وسياسة العمل من خلال النقابات العمالية مع إدراك حدود النقابوية. وكذلك الدفاع عن الحقوق الديمقراطية أثناء النضال من أجل تجاوز الديمقراطية البرجوازية. ومع ذلك فإن صيغة ماركس تتضمن حدوداً وثغرات، فهي مكتوبة على مستوى عال من التعميم وليس فيها ما يتعامل بشكل خاص مع الشكل التنظيمي الذي يجب أن يتبناه الشيوعيون. وهي في الواقع لا تحوى إشارة صريحة لمعنى الحزب. عدم الدقة هذه أدت إلى الافتراض الوحيد في الفقرة الذي أثبتت الأحداث اللاحقة بطلانه بوضوح، وهو بالتحديد أن "الشيوعيين لا يشكلون حزباً منفصلاً معارضاً لباقي أحزاب الطبقة العاملة". وهذا له معنى كمبدأ عام فقط إذا أخذ على أنه مطابق فى المعنى للمقولة بـ"أنهم ليس لديهم مصالح منفصلة ومختلفة عن مصالح الطبقة العاملة ككل". وعدم الدقة هذه في استخدام كلمة "الحزب" ليست مقتصرة على البيان الشيوعي. ففي أعماله يستخدم ماركس مصطلح الحزب بمعان متعددة (يعرف مونتى جونستون على الأقل خمس "نماذج" أساسية16) للإشارة إلى ظواهر مختلفة عديدة مثل حركة الشارتيين العريضة والفضفاضة، وللإشارة أيضاً إلى مجموعته الصغيرة من الرفاق والأتباع، وكذلك إلى القضية الثورية العامة. وهكذا يكتب ماركس لجريدة "فريلجراث" شارحاً أن "العصبة (الشيوعية)، مثلها مثل جمعية المواسم في باريس، ومثل مئات الجمعيات الأخرى، كانت فقط حلقة في تاريخ الحزب الذي ينمو تلقائياً في كل مكان من تربة المجتمع الحديث… تحت مفهوم 'الحزب'، أفهم الحزب بالمعنى التاريخي العظيم للكلمة"17، وكما كتب لـكوجلمان: "إن كوميونة باريس كانت أعظم عمل قام به حزبنا منذ انتفاضة يونيو في باريس (1848)" 18. بسبب غموض ماركس فى هذه النقطة فإنه من الصعب بناء أو إعادة بناء أي نظرية واحدة للحزب من الاقتباسات المأخوذة خارج سياقها. والإجراء الوحيد الممكن هو فحص التطور الحقيقي لنشاط ماركس السياسي وتفسير تعليقاته على مسألة الحزب فى سياقها التاريخي. 19 في هذا السياق هناك حقيقة أساسية يجب الانتباه إليها وهي أن عدم وجود تعريف محدد وواضح للحزب السياسي لم يكن محض صدفة ولا نتاج كسل فكري، ولكن ذلك يعكس حقيقة أنه خلال فترة طويلة من حياة ماركس لم تكن الأحزاب السياسة بمعناها الحديث قد وُجِدَت بعد سواء للبرجوازية أو للبروليتاريا. إن الحزب الجماهيري الحديث بتعريفه الواضح للعضوية وتنظيمه ودستوره هو ظاهرة حديث، ظهرت إلى حيز الوجود أساساً لكي تواجه تحدي الاقتراع العام والديمقراطية البرجوازية كاملة التطور، وافترضت مسبقاً وجود شبكة اتصالات فعالة وإعلام جماهيري وانتشار التعليم. أما قبل ذلك فالحزب السياسي الحديث لم يكن مطلوباً من قِبَل النظام السياسي البدائي نسبياً. فكل ما كان ضرورياً هو إما جمعيات فضفاضة وغير رسمية قائمة على شبكة من الوجهاء المحليين (عادةً من ملاك الأراضي)، أو تجمعات صغيرة فى نوادي وصالونات المثقفين ذوي النفوذ. من غير المعقول إذاً أن ننتظر من ماركس مفاهيماً تسبق تجربة زمانه. وهذا كلام صحيح خصوصاً لأنه من الأصعب علينا أن نرى المستقبل فى مجال الأشكال الملموسة للتنظيم من أن نراه فى مجال التطور الاقتصادي والاجتماعي العام. ولرسم الخطوط العريضة لتطور مفهوم ماركس للحزب يمكن تقسيم حياته السياسية إلى أربعة فترات أساسية: 1) من 1847 - 1850 وهي فترة العصبة الشيوعية؛ 2) من 1850 - 1864 وهي فترة الهدوء الطويلة في الصراع الطبقي؛ 3) من 1864 - 1872 الاتحاد الأممي للعمال؛ 4) من 1873 وصاعداً و هي فترة بدايات الاشتراكية الديمقراطية الجماهيرية. بحلول عام 1846 أسس ماركس وإنجلز لجان المراسلة الشيوعية، وكان مركزها بروكسل، وبعلاقات في بريطانيا وفرنسا وألمانيا. ومن خلال هذه اللجان تم الاتصال بـعصبة العدالة وهي جمعية أممية سرية تكونت أساساً من الحرفيين الألمان. ومع حلول 1847 تم كسب قيادات العصبة ودُعِيَ ماركس وإنجلز للانضمام فوافقا على شرط أن يتم التخلي عن الأشكال التآمرية القديمة للتنظيم. وقد غيرت بعد ذلك عصبة العدالة اسمها إلى العصبة الشيوعية، وأقامت مؤتمر إعادة تنظيم بمشاركة ماركس وإنجلز. كانت أهم النقاط التي نوقشت بالمؤتمر هي تحقيق بنية تنظيمية "ديمقراطية شاملة… بهيئات منتخبة وقابلة للتغيير" والنضال ضد "كل التواقين إلى التآمرية".20 وقد حارب ماركس وانجلز من أجل التحول نحو الدعاية المفتوحة للأفكار الشيوعية داخل الطبقة العاملة. لذلك نرى أنه بحلول عام 1847 تجمع عدد من الأفكار الأساسية للنظرية الماركسية للحزب. أولا حاجة البروليتاريا فى أي مكان إلى تنظيم أممي، وثانياً الربط بين الصراع الطبقي والتحرر الذاتي للطبقة العاملة، والحاجة إلى تنظيم ديمقراطي يعرض أهدافه بشكل واضح. أطلقت العصبة على نفسها تسمية منظمة دولية وأحياناً أخرى "الحزب الشيوعي الألماني"، ولكنها في الواقع كانت أضعف من أن تكون نواة للأممية الأولى أو حزباً قومياً قوياً. ولكنها كانت بأعضائها الـ200 أو الـ21300 المنتشرين في بلاد عدة لا تعدو أن تكون نواة لحزب. في البداية كانت الإستراتيجية المتبعة من قِبَل الشيوعيين هي العمل بقدر الإمكان داخل الحركات الموجودة في البلدان المختلفة. فهكذا في بريطانيا عمل أرنست جونز من خلال الشارتيين ، وفى فرنسا انضم أعضاء العصبة إلى الاشتراكيين الديموقراطيين التابعين لليدرورولين ولويس بلانك. وسرعان ما ظهر ضعف العصبة حينما غمرت في أحداث أوربا عام 1848. وكما كتب إنجلز "إن البضعة مئات الذين شكلوا أعضاء العصبة اختفوا في الخضم الجماهيري الذي اشترك في الحركة".22 وليس معنى هذا أن أعضاء العصبة لم يكن بيدهم شئ يقدمونه. بل على العكس فقد لعبوا كأفراد دوراً هاماً فى تطوير الثورة. وكما وضعها ستيفن بورن لـماركس "إن العصبة لم تعد موجودة ولكن على الرغم من ذلك فهي موجودة في كل مكان".23 إن عدم وجود تنظيم فعال كقاعدة وصغر حجم الطبقة العاملة وعدم نضجها السياسي مع وجود حالة شديدة الثورية… دفع كل هذا أدى ماركس إلى الابتعاد من مخططاته المرسومة فى البيان الشيوعي. فبدلا من ظهوره كمؤيد ومحرض للثورة العمالية، وكممثل لحزب طبقة عاملة مستقل اضطر ماركس إلى العمل بأقصى يسار الديمقراطية الراديكالية من خلال جريدة نيوراينيش زيتونج، والعمل على دفع الثورة البرجوازية إلى النقطة التي تتفجر فيها التناقضات تحت أقدامها. كان ماركس واعياً للمشاكل المتضمنة فى موقفه، وفى عام 1849 عندما أعربت البرجوازية الراديكالية الألمانية عن عدم مقدرتها على القيام بثورة، استقال هو وزملاؤه وولف وشابر وبيكر من لجنة منطقة راينلاند التابعة للاتحاد الديمقراطي. وقد كتبوا "فى رأينا أن شكل التنظيم الحالي للاتحادات الديمقراطية يحوى الكثير من العاصر غير المتجانسة إلى الدرجة التي يستحيل معها عمل نشاط يعيد تطوير أهدافها. وفي رأينا أن تشكيلات أضيق مكونة من منظمات عمالية ستكون أكثر فائدة لأن تلك المنظمات تتكون من عناصر أكثر تجانساً".24 وبدءاً من هذه النقطة، أصبح النضال من أجل تكوين المنظمة السياسية المستقلة للطبقة العاملة أساسياً للنظرية والممارسة الماركسية. وقد منع الانهيار السريع للثورة الألمانية تحقيق هذا التوجه بصورة عملية وفورية. ولكن في خريف 1849 أعاد ماركس - من منفاه في لندن - تشكيل اللجنة المركزية للعصبة الشيوعية. وبدأ إعادة تنظيمها بألمانيا مضطراً في هذه المرة كحزب سري مركزي. في مارس 1850 وفى بيان اللجنة المركزية للعصبة الشيوعية (المعروف باسم بيان مارس) جمع ماركس خبرة هذه الفترة والدروس التنظيمية المستقاة منها : وفي نفس الوقت كان التنظيم الصارم للعصبة متراخيا بشكل ملحوظ، وقد ظن جزء كبير من الأعضاء الذين شاركوا فى الحركة الثورية أن وقت الجمعيات السرية قد مات وأن النشاطات العامة العلنية وحدها فعالة. وقد سمحت الحلقات الفردية والجمعيات لاتصالاتها باللجنة المركزية بالتراخي وتدريجياً انقطعت نتيجة لذلك. وبينما كان الحزب الديمقراطي - حزب البرجوازية الصغيرة - ينظم نفسه أكثر فأكثر فى ألمانيا؛ فَقَدَ حزب العمال موطئ قدمه الوحيد وبقى منظماً في الأغلب في بلديات متفرقة بأهداف محلية، ولهذا في الحركة العامة وقع تحت سيطرة وقيادة الديمقراطيين البرجوازيين الصغار بالكامل. يجب أن توضع نهاية لهذا الوضع المتردي، ويجب إعادة استقلالية العمال… إن إعادة التنظيم ممكنة فقط عن طريق مبعوث، وتؤكد اللجنة المركزية على أهمية أن يرحل هذا المبعوث فى الحال، في وقت تكون فيه ثورة جديدة على الأبواب، فى وقت يجب أن يعمل فيه الحزب العمالي بأكثر الوسائل تنظيماً، وأكثر الطرق الممكنة استقلالية، لو أراد ألا يُستَغَل من قِبَل البرجوازية مرة ثانية كما حدث فى 1848. 25 في بيان مارس يسجل ماركس أقصى نقطة اقتراب من مفهوم لينين للحزب الطليعي (على الرغم من وجود اختلافات كبيرة بالطبع). ومفتاح هذه الأطروحات التنظيمية هو أنها نتاج أكبر انخراط مباشر لماركس في العمل السياسي الثوري وأنها صممت كدليل للعمل في موقف يفترض فيه أن "ثورة جديدة على الأبواب". إن الخطة الموضوعة لتشديد تنظيم العصبة وتقوية استقلالها لا تشكل بنفسها جهازاً تنظيمياً منعزلاً، ولكنها جزء مكمل في منظور العمل الثوري الحيوي الذي تقوم بمقتضاه الطبقة العاملة بتقلد القيادة في الثورة الديمقراطية لدفعها في اتجاه اشتراكي. جنباً إلى جنب مع الحكومات الرسمية الجديدة التي عليهم أن يؤسسوا بالتوازي حكوماتهم العمالية، سواء كان ذلك على هيئة لجان محلية أو مجالس محلية أو على هيئة نوادي عمالية أو لجان عمالية… الأسلحة والذخيرة لا يجب تسليمها مهما كانت الظروف، وأي محاولة نزع سلاح يجب أن تجابه ولو بالقوة إن لزم الأمر. تدمير تأثير البرجوازيين الديمقراطيين على العمال، منظمة عمالية مستقلة مسلحة فوراً، فرض أصعب شروط ممكنة على حكم الديمقراطية البرجوازية المؤقت بطبيعته- هذه هي النقاط التي يجب أن تضعها البروليتاريا ومن ثم العصبة نصب أعينها خلال وبعد الانتفاضة الوشيكة. 26 لذا فإن وجه التشابه بين مفهوم ماركس للحزب فى هذه النقطة ومفهوم لينين بعد خمسين عاماً أو أكثر ينبع من تشابه ظروفهم. وليس من قبيل الصدفة أن يشتق تروتسكي نظريته في "الثورة الدائمة" من بيان مارس. وليس من قبيل الصدفة أيضاً أن كثيراً ما كان لينين يستشهد بكتابات ماركس وإنجلز في هذه الفترة من أجل تقديم الدعم النظري لتكتيكات البلاشفة في الثورتين الروسيتين. لكن ماركس لم يؤله أبداً أي شكل تنظيمي على وجه التحديد أو أي حزب بعينه. وكما تغيرت الظروف تغير مسلكه. في صيف 1850 عندما أصبح واضحاً أن المنظور الذى ترتكز عليه الخطط التنظيمية فى البيان كان خاطئاً وأنه لن يكون هناك اندلاع مبكر للثورة تخلى ماركس عن هذه المقترحات بسرعة. وأدى هذا بشكل حتمي إلى انشقاق فى اللجنة المركزية بين الذين اعترفوا بانحسار الموجة الثورية وبين الذين رفضوا مواجهة الحقيقة. وأراد الفريق الثاني بقيادة ويليس وشابر أن يعجل من الثورة فمارس مختلف أشكال الخطط المغامرة: مثل وضع خطة غزو مسلح لألمانيا. وقد وضع هذا الانشقاق نهاية العصبة الشيوعية كمنظمة فاعلة. وعلى الرغم من قيام محاولة لإنقاذها، وذلك بنقل اللجنة المركزية إلى كولون، سرعان ما استقال ماركس وبعد ذلك بفترة قصيرة تم حل العصبة نفسها. عند هذه النقطة بدأ ماركس فترة من حياته مكرسة بأكملها تقريباً لأبحاثه الاقتصادية علاوة على سعيه لكسب عيشه. وقد لخص نظرته للأعوام القادمة فى آخر عدد من نيوراينيش ريفيو فى نوفمبر 1850: بالنظر إلى الازدهار العام المنتشر حالياً، والذي يسمح لقوى إنتاج المجتمع البرجوازي بالتطور بقدر ما يمكن أن يسمح لها إطار المجتمع البرجوازي، فإنه لا يمكن الحديث عن ثورة حقيقية. إن ثورة جديدة ستصبح فى طور الإمكان فقط كنتيجة لأزمة جديدة. لكن قدومها حتمي كحتمية قدوم الأزمات نفسها. 27 كانت أوساط المهاجرين دائماً ذات سمعة سيئة بالشجارات التافهة والفضائح والصراعات المدمرة. لذلك كان من الضروري لصحة ماركس النفسية ونجاح أعماله النظرية أن ينسحب من هذا الوسط المؤذى. واستقبل ماركس وإنجلز هذه الراحة من تلك المعارك الحزبية بارتياح شديد. وكتب ماركس إلى إنجلز "إنني مسرور جداً بعزلتنا التامة والمعلنة والتي نجد أنفسنا فيها الآن نحن الاثنين. إنها تتفق تماماً مع مبادئنا وموقفنا".28 ورد إنجلز "أخيراً أخذنا - لأول مرة منذ فترة طويلة - فرصة لنثبت أننا لسنا فى حاجة إلى تأييد أي حزب كان من أي بلد كانت، وأن موقفنا مستقل بالكامل عن مثل هذه القمامة".29 ويحذر فرانز مهرنج من أن تؤخذ هذه الملاحظات الخاصة على محمل الجد. 30 ولكن بعض المعلقين من أمثال برترام د. وولف وشلومو افنيرى رأوا أن يقدموها كآراء ماركس "الحقيقية" في الحزب. لكن هذه المحاولة تنزع هذه التعبيرات الجافة بعيداً عن السياق التاريخي العام الذي كُتِبَت فيه وملابساتها الخاصة (أي عن الخطابات الخاصة بين الأصدقاء المقربين)، 33 وتضعها في مواجهة نصوص لها وزنها واعتبارها الأكبر ومكتوبة بغرض النشر. عند أخذ هذه التعليقات - وتعليقات أخرى لماركس وإنجلز - حرفياً، يمكن أن تؤخذ على أنها تعارض العمل السياسي بأكمله وهو الشيء السخيف للغاية. فحتى أيام الخمسينات والستينات عندما كان ماركس منهمكاً حتى النخاع في كتاب "رأس المال" لم ينسحب من الحياة السياسية بالكامل مطلقاً. كان يواصل إسهاماته فى الجرائد الشارتية ويراقب إرنست جونز الذي قال عنه (ماركس) في 1857 بأنه يجب أن "يؤسس حزباً يمتد إلى المناطق والأحياء العمالية".34 لكن ماذا كانت العوامل الرئيسية فى غياب ماركس 12 عاماً عن أي حزب سياسي ؟ أولاً، وكما أسلفنا، بسبب رأيه في أن المجتمع البرجوازي قد دخل في مرحلة طويلة من الاستقرار والتوسع. ثانياً، كانت هناك الأهمية العظيمة التي أولاها ماركس لأعماله النظرية. وعندما جاءه مهاجر ألماني في نيويورك يريد إحياء العصبة الشيوعية قال ماركس:"[أنا] مقتنع تماماً بأن عملي النظري له فائدة أكبر للطبقة العاملة من المشاركة فى تنظيماً عفي عليه الزمن".35 ثالثاً، كانت هناك فجوة كبيرة فرقت مفهوم ماركس عن الحركة الثورية عن المفهوم الذى كان يؤمن به غالبية الثوريين فى ذلك الوقت. بما أن القوى المحركة للتاريخ عند ماركس كانت الصراع الطبقي وكان هدفه هو التحرر الذاتي للطبقة العاملة، فأن وظيفة الحزب هي قيادة وخدمة البروليتاريا، وليس "وضع مبادئ عصبوية تخصه ليستطيع من خلالها تشكيل الحركة العمالية". ولكن الحركة الثورية فى منتصف القرن التاسع عشر كانت تحت سيطرة مفاهيم وتراث مختلفين تماماً. كانت الاتجاهات الشائعة في ذلك الوقت إما بقايا التراث اليعقوبي التآمري الذي انبثق عن الثورة الفرنسية، أو من الاشتراكيين الطوباويين البرجوازيين صغار الذين آمنوا بالتوفيق بين رأس المال والعمل على أساس مثلهم المستنيرة. كان الفريقان نخبويين من حيث موقفهما من الطبقة العاملة. الأولون أرادوا العمل من وراء وبالنيابة عن الطبقة والآخرون أرادوا أن تبقى الطبقة سلبية حتى يتم إقناع ذوي النوايا الطيبة باستخدام قوة الإقناع. كان ماركس قد طرح جانباً تلك الأفكار منذ زمن بعيد، وكان مستعداً لخوض معركة معهم فى سياق حركة للطبقة العاملة. ولكنه اعتبر -في خارج هذا الإطار (فى جمعيات ونوادي صغيرة)- أنه سوف يضيع وقته لو أنخرط معهم بأي شكل من الأشكال. الممارسة والنظرية الذي سحب ماركس من عزلته التي فرضها على نفسه كان دعوته إلى الاجتماع التأسيسي لاتحاد العمال الأممي الذي عقد في سانت مارتينز هول في 26 سبتمبر 1864. لم يكن تأسيس الأممية بواسطة ماركس ولا إلهاماً ماركسياً، ولكنه جاء كنتيجة تصاعد عام للنضال الاقتصادي للطبقة العاملة الأوروبية، ونتيجة اهتمام الطبقة العاملة بالقضايا الدولية كتأييد الشمال فى الحرب الأهلية الأمريكية؛ وقضية الاستقلال البولندي؛ وتوحيد إيطاليا؛ ومنع استخدام العمال المهاجرين لكسر الإضرابات. جاءت المبادرة الفورية لاجتماع سانت مارتينز هول من أعضاء من نقابيين في لندن وباريس. وكان ذلك التميز والعفوية هما العاملان الأساسيان اللذان جذبا ماركس، فكتب إلى إنجلز "أعلم أن في هذه المرة تشارك 'القوى' الحقيقية في لندن وباريس. ولهذا السبب قررت التخلي عن موقفي المعتاد الرافض لجميع مثل هذه الدعوات... لأن من الواضح أن هناك صحوة للطبقات العاملة".36 كان لهذه المعالم الإيجابية جانب سلبي متمثل في الارتباك وعدم التجانس النظري والسياسي. فمن بين المشتركين في الأممية كان هناك أتباع مازينى من القوميين الإيطاليين، وفرنسيون برودونيون الذين أرادوا التوفيق بين رأس المال والعمل، وأوينيون مثل وستون37 الذين عارضوا فكرة الإضرابات، وأيضاً جمعيات سرية اتبعت الشكل الماسوني مثل الفيلادلفيين.38 اضطر ماركس إلى استخدام اللباقة وكثير من المكر حتى يتسنى له أن يعمل في مثل هذا الهيكل غير المنظم ليوجهه إلى الطريق الذى تبناه. كان الأمر محتاجاً لكثير من التسوية عند استلامه لمهام رسم الخطوط العريضة للأممية، و"الخطاب الافتتاحي"39، وذلك لتجنب مضايقة المشاركين الآخرين. لقد كان من الصعب علينا أن نصوغ أفكارنا بحيث تظهر فى شكل مقبول من وجهة نظر الموقف الحالي للحركة العمالية. خلال بضعة أسابيع سيعقد نفس الناس اجتماعا للتوكيل مع برايت وكوبدن وسوف يمر بعض الوقت قبل أن تسمح الحركة الناهضة بالحديث الواضح القوى ثانية.40 كانت طريقة ماركس هي التركيز على الطبيعة الطبقية للحركة وأمميتها، مع التركيز على أطروحة التحرر الذاتي المنتشرة آنذاك،41 بدون التركيز على الأهداف أو الطرق الثورية. لهذا نصت القواعد على أن "تحرير الطبقة العاملة يجب أن ينتزع بواسطة الطبقة العاملة ذاتها"، وأن "التحرر الاقتصادي للطبقات العاملة هو الهدف الأسمى الذى يجب أن تكون كل حركة سياسية خاضعة له كأداة"، وأن "تحرير العمل ليس مشكلة محلية ولا قومية بل مشكلة اجتماعية تضم جميع البلدان التي يوجد فيها المجتمع الحديث".42 ولكنهم لا يذكرون تجميع وسائل الإنتاج - الأمر الذي كان ليغضب البرودونيين، ولا الثورة التي كانت لتخيف النقابيين الإنجليز. وقد نجحت هذه الإستراتيجية تماماً. وجنّبت الأممية نفسها عن أن تكون كما قال مهرنج: "جسم صغير برأس كبير".43 ولكن في نفس الوقت استطاع ماركس تدريجياً، من خلال تفوق تصوره الأشمل للحركة أن يفرض سيطرته الفكرية على المجلس العمومي. وبنمو قوة الأممية - مستفيدة على وجه الخصوص من موجة الإضرابات التي تولدت من الأزمة الاقتصادية 66 - 1867 - أقنع ماركس مؤتمرات متتالية بتبني سياسات أكثر اشتراكية. وقد أقر مؤتمر لوزان (1867) أن: "التحرر الاجتماعي للعاملين لا ينفصل عن تحررهم السياسي".44 وشهد مؤتمر بروكسل (1868) هزيمة البرودونيين في مسألة الملكية الجماعية للأراضي والسكك الحديدية والمناجم والغابات، وقد قرر مؤتمر لندن (1871) أن يضيف الفقرة التالية إلى القواعد: في نضالها ضد القوة الجمعية للطبقات المالكة تستطيع البروليتاريا أن تتصرف كطبقة فقط إذا شكلت حزباً سياسياً معارضاً لكل الأحزاب القديمة التي شكلتها الطبقة المالكة. إن تشكيل البروليتاريا فى حزب سياسي لهو ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها من أجل انتصار الثورة الاجتماعية وهدفها النهائي: إلغاء الطبقات. 45 ولكن على الرغم من هذا التقدم فقد بقيت الأممية خليطاً من اتجاهات مختلفة إلى الدرجة التي يستحيل معها أن تقترب من أن تكون حزباً شيوعياً عالمياً. ولم يحاول ماركس أبداً أن يفرض مثل هذا المفهوم عليها. ولكنه وافق على أن الأممية لا تعدو كونها اتحادا عريضاً للمنظمات والأحزاب العمالية فى مختلف البلدان وأنه عليها أن "تدع لكل فريق أن يشكل برنامجه النظري بحرية".46 إن الحالة الفضفاضة - التي كانت قوة للأممية سمحت لماركس بأن يحافظ على تكتلاتها العديدة في نفس الوقت الذي وفر فيه التوجيه العام - كانت أيضاً نقطة ضعف لها وجعلت الأممية هدفاً سهلاً للاختراق من قِبَل ميخائيل باكونين ومنظمته الفوضوية الأخوة العالمية والتي دخلت الأممية في 1868 من داخل الحلف الأممي للاشتراكية الديمقراطية. وكانت عاملاً أساسياً فى الانهيار النهائي لها. كان باكونين مغامراً رومانسياً أو متآمراً أكثر من كونه منظراً. وكان البرنامج الذى وضعه ساذجاً ومشوشاً، دعي إلى "المساواة بين الطبقات"، وأيد الإلغاء المباشر للدولة، وكذلك إلغاء حق الميراث... كل هذه كمطالب أساسية للحركة، وفوق كل هذا الابتعاد التام عن السياسة. نظر ماركس إلى هذه الأفكار بازدراء: "سخافة تم جمعها بطريقة سطحية من اليمين ومن اليسار... كتاب لأطفال التمهيدي... الفوضى التي جمعها من بقايا البرودونيين وسان سيمون وغيرهم".47 ولكنه لم ينكر حق الفوضويين فى مناقشة قضيتهم داخل الأممية. لقد كان صراعا - ليس على المبدأ - ولكن على نوع التنظيم الذى ستسير عليه الأممية، وهذا هو أساس الصراع المدمر بين ماركس وباكونين. استغل باكونين العدد الهائل من التوترات والانقسامات فى داخل الأممية، وبدأ حملة ضد "سلطوية" المجلس العمومي تهدف إلى استغلال الانتقادات المختلفة للمجلس العمومي. ولكن فى خلال إطار الحملة "المضادة للسلطوية" حاول باكونين فرض "الديكتاتورية الشاملة الخفية"48 الغير منتخبة لجمعياته السرية. حقيقة الأمر كما يصورها مونتي جونستون أن "كان الأمر إما وجوب أن تُدار الأممية كمنظمة ديمقراطية عامة بما يتوافق مع القواعد والسياسات الموضوعة من قِبَل المؤتمرات، أو السماح لباكونين بأن 'يشل نشاطها بمؤامراته الخفية' وكذلك السماح للاتحادات والفرق بعدم قبول قرارات المؤتمرات التي اختلفوا معها".49 اكتسبت نشاطات باكونين أهمية بسبب تزامنها مع العنصر الأساسي الآخر في فشل الأممية وهو كوميونة باريس. لقد أدى تعاطف ماركس مع الكوميونة في الحرب الأهلية في فرنسا إلى إلصاق الكوميونة بالأممية وبالتالي إلى انتشار "الذعر الأحمر" وحملة مطاردة ضد الأممية فى أنحاء أوربا. في الوقت ذاته، أدى ظهور ثورة اجتماعية واقعية -بإشكاليات سياسية مطروحة بصورة أوضح- إلى تحطيم الوحدة الهشة التي ارتكزت عليها الأممية. للتعامل مع هذا الوضع طالب ماركس فى مؤتمر لندن بسلطات إضافية للمجلس العمومي، وتمت الموافقة على هذا. ولكن ذلك أدى بدوره إلى دفع الذين استاءوا من "تدخل" المجلس العمومي إلى المعسكر "المضاد للسلطوية" بزعامة باكونين. وبحلول عام 1872 قرر ماركس أن الأممية قد حان أجلها (على الرغم من عدم إعلانه لذلك)، ولكنه كان مصمماً على إلا تقع فى أيدي المتآمرين سواء الباكونينيين أو البلانكيين الذين كانوا يحاولون تسوية الإنجازات الإيجابية للأممية بمغامرات لا طائل من وراءها. وقد حقق ماركس هذه الأهداف فى مؤتمر "هيج" وذلك بتأمين طرد باكونين (على أساس أسباب مشكوك فيها) 50 وأيضاً بنقل مقر الأممية إلى أمريكا حيث انتهت في سلام في عام 1876. كان اتحاد العمال الأممي بدون شك أهم أعمال ماركس السياسية طوال حياته. وقد أعطت قوة دافعة كبيرة لتطوير الحركة فى كل مكان. وخلقت وعياً أكثر انتشارا بكثير لبعض مبادئ ماركس الأساسية عنها فى أي وقت مضى. وفوق هذا كله فقد كرست تقليد الأممية وكذلك تقليد التنظيم الأممي في قلب حركة الطبقة العاملة الاشتراكية. كانت تلك إنجازات ضخمة، ولكنه من الواضح أن الأممية احتوت على بذور التفكك فى أساس إنشائها. ولتقييم مفهوم ماركس للحزب فإنه من الضروري اختبار قوة وضعف الأفكار النظرية التي بنى عليها عمله فى خلال هذه الفترة. بما أن ماركس كان دائماً يتناول الحزب مقروناً بالطبقة العاملة، وأن الطبقة العاملة تُعّرف أساساً بوضعها الاقتصادي، فإن المشكلة النظرية الأساسية تكمن فى طبيعة العلاقة بين الاقتصاد والسياسة وعلى وجه التحديد بين الصراع الاقتصادي للطبقة العاملة وتطور وعيها السياسي وتنظيمها. وهناك عدة كتابات في هذه الفترة تشير إلى تبني ماركس الرأي القائل بأن الوعي السياسي يظهر بشكل تلقائي من الأوضاع الاقتصادية والصراع العمالي. هكذا يقول ماركس في خطبة له أمام ممثلين من النقابيين الألمان عام 1869: "إن النقابات هي مدارس الاشتراكية. ففيها يعلم العمال أنفسهم ويصيرون اشتراكيين لأن الصراع مع رأس المال يحدث كل يوم على مرأى من عيونهم ... إن غالبية العمال مهما كان انتماؤهم الحزبي، قد فهمت أخيراً أن وضعها المادي يجب أن يتحسن. ولكن بمجرد أن يتحسن وضع العامل المادي فسوف يستطيع أن يكرس نفسه لتعليم أطفاله، ولن يحتاج أطفاله وزوجته للذهاب إلى المصنع، ويستطيع هو نفسه تطوير فكره بشكل أفضل، ويولي صحته رعاية أفضل ويصبح اشتراكيا دون أن يلحظ ذلك".51 أعاد ماركس طرح المفهوم النظري الأساسي نفسه في رسالة إلى ف. بولت عام 1872، بالرغم أنه توجد بعض العبارات هنا لا يجب أخذها حرفياً: إن هدف الحركة السياسية للطبقة العاملة هو بالطبع انتزاع السلطة السياسية لصالح هذه الطبقة، وهذا يتطلب تنظيماً مسبقاً للطبقة العاملة متطوراً إلى نقطة معينة ونابعاً من نضالاتها الاقتصادية. ومن ناحية أخرى فإن كل حركة تظهر فيها الطبقة العاملة كـطبقة ضد الطبقات الحاكمة وتحاول الضغط عليها من أسفل هي حركة سياسية. على سبيل المثال، فإن المحاولة داخل مصنع معين أو حتى قطاع معين لفرض يوم عمل أقصر ضد رأسماليين معينين من خلال الإضرابات، الخ… هي حركة اقتصادية صِرْف. ولكن من ناحية أخرى فإن محاولة فرض قانون (أو ما إلى ذلك) ليوم عمل من ثمان ساعات هي حركة سياسية. وبهذه الطريقة تنمو بكل مكان حركة سياسية من حركات اقتصادية منفصلة للعمال. وبعبارة أخرى، حركة الطبقة تملك قوة فرض مصالحها في شكل عام، وفي شكل يملك قوة الإخضاع الاجتماعي (التشديد لكارل ماركس). 52 تكمن قوة رؤية ماركس في ماديتها، وفي تأكيدها على التعلم من خلال التجربة والنضال. ولكن يكمن ضعفها في حتميتها الاقتصادية وتفاؤلها بالتطور. لم يوضح التاريخ فقط عملية التطور التي رسمها ماركس، فبجانب هذا أوضح العديد من القوى المضادة التي تعمل على قطع طريق تطور التحول من الوعي النقابي إلى الوعي الاشتراكي. وبالأخص، في قدرة المكاسب الاقتصادية -حتى تلك التي اكتُسِبَت من خلال النضال- على العمل كمسكنات لا منشطات، بالإضافة إلى تقليل ماركس من خطورة سيطرة الأيديولوجية البرجوازية على البروليتاريا وبالتالي قدرتها على تقسيم وتجزئة الحركة. في 1890 علق إنجلز قائلاً "يقع اللوم جزئياً على ماركس وأنا لتأكيد الشباب أحياناً على الجانب الاقتصادي أكثر من اللازم. كان علينا أن نؤكد مبدئنا الأساسي في مواجهة أعدائنا الذين أنكروه، ولم يكن لدينا دائماً الوقت ولا المكان والفرصة لإعطاء حق العوامل الأخرى التي تدخل في التفاعل"53 ، ويقع الجزء الأكبر من لائمة مسألة تطور الوعي الاشتراكي على ماركس لتأكيده الأكثر من اللازم على "المبدأ الأساسي" على حساب "العوامل الأخرى التي تدخل في التفاعل". لقد بنى ماركس أفكاره حول التنظيم ونشاطه في الأممية معتمداً على تبسيطه المخل والتفاؤل الشديد الذي حوى رؤيته بكيفية تحول الطبقة العاملة من "طبقة في ذاتها" إلى "طبقة لذاتها". كانت المسألة الأساسية لماركس هي بناء منظمة سياسية معتمدة على فكرة الصراع الطبقي الذي يشرك قطاعات واسعة من العمال، وفي حالة تحقيق ذلك، اعتقد ماركس أن التنظيم سوف يتطور بنفسه في اتجاه ثوري. لهذا فإننا نجد عنصراً قوياً من القدرية في منظور ماركس من ناحية تكوين الحزب، إذ رأى أن صراع الأفكار والاتجاهات داخل حركة الطبقة العاملة سوف يحل نفسه بتأكيد وتدعيم الاتجاهات الطبقية للعمال. كانت المشكلة الأساسية عند ماركس هي فشله في تصور إمكانية وجود إصلاحية سياسية عمالية (بعبارة أخرى الاشتراكية الديمقراطية أو العمالوية) تمسك بقبضتها على الحركة بطريقة لا تسمح لها بتطوير نفسها ولا أن تفسح المجال للعمل الثوري، بل تمثل عقبة كبيرة في طريق الثورة. ولأن ماركس لم ير الخطر فإنه بالتالي لم ير الطريقة لمحاربته وهى خلق حزب طليعي منضبط وضيق نسبياً. 6- الاشتراكية الديمقراطية ومشكلة الإصلاحية منذ عام 1872 فصاعداً، لم يكن ماركس وانجلز مشتركين أو أعضاء فى أي تنظيم أو حزب، ولكنهما على الرغم من ذلك اعتبرا نفسيهما "ذوا وضع خاص كممثلين للاشتراكية الأممية"،54 وبهذه الوضعية أسدوا النصح للاشتراكيين فى أرجاء العالم. كان إنجلز في هذا المجال أنشط من ماركس لتردي صحته وتركيزه على دراساته. لكنه يبدو من المعقول اعتبار آراء إنجلز -في تلك الناحية على الأقل- ممثلة بطريقة عامة لآراء ماركس. كانت أهم ظاهرة في تلك الفترة ظهور أحزاب عمالية اشتراكية ديمقراطية في عدد من البلدان، خاصة في ألمانيا. جمعت هذه التنظيمات بين برنامج اشتراكي معلن وجمهور الطبقة العاملة. أدت مشاهدة هذا التطور مع الخبرة العمل في الأممية - فيما يبدو - إلى إعادة تقييم أو على الأقل تغيير في التركيز في وجهات نظر ماركس وإنجلز. هكذا نجد أنه في عام 1873 حذر إنجلز بيبل من أن "ينخدع بنداء 'الوحدة' ... يثبت الحزب انتصاره بالانشقاق وبكونه قادراً على تحمل ذلك".55 وفي عام 1874 تنبأ إنجلز لسورج بأن "بعد أن تكون كتابات ماركس قد خلقت آثاراً لبعض السنين ستكون الأممية القادمة شيوعية بشكل مباشر وسوف تطبق مطالبنا بحذافيرها".56 في بريطانيا والولايات المتحدة، حيث تواجدت طبقات عاملة في غاية القوة ولكن العمال خاضعين سياسياً لأحزاب الطبقة الحاكمة وحيث التيار الاشتراكي شديد الضعف، واصل ماركس وإنجلز خط سيرهما القديم في الدعوة إلى تكوين حزب عمالي مستقل وعريض دون النظر إلى برنامجه أو إلى أسسه النظرية. كتب إنجلز سلسلة من المقالات على هذا الأساس في مجلة وضع العمل في عام 1881 مجادلاً - ومتنبأً بطريقة نشأة حزب العمال (البريطاني) - أنه "إلى جانب، أو على رأس، النقابات العمالية يجب أن تنبثق رابطة عامة، كتنظيم سياسي للطبقة العاملة بأكملها".57 وفى 1893 حث كل الاشتراكيين على الانضمام إلى حزب العمال المستقل. وفيما يتعلق بأمريكا جادل إنجلز: إن الشيء العظيم هو جعل الطبقة العاملة تتحرك كطبقة، وبمجرد حدوث هذا سوف يجدون الطريق الصحيح... إن تَوقُّع أن يبدأ الأميركيون بالوعي الكامل بالنظرية التي تطورت في الدول الصناعية الأقدم هو بمثابة توقع المستحيل ... إن أصوات مليونين من العمال فى نوفمبر القادم لصالح حزب عمالي حقيقي جاد لهو أهم بكثير - في الوقت الحالي - من مائة ألف صوت لصالح منبر كامل المبادئ... ولكن أي شئ يمكن أن يعطل أو يمنع ذلك التضامن القومي لحزب الطبقة العاملة -ومهما كان الأساس النظري لذلك- أعتبره خطأ جسيماً. 58 وأما فيما يخص فرنسا وألمانيا، حيث كانت الحركة أكثر تقدماً بكثير، كان سلوك ماركس وانجلز مختلفاً تماماً. وهنا رأوا - ولأول مرة - إمكانية خلق أحزاب ماركسية قوية فى هيئة الحزب العمالي الفرنسي والحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني. ومن أجل تحقيق تلك الإمكانية، أعطوا اهتماما خاصاً لمسائل النظرية والبرنامج. لهذا فانه عندما انقسم الحزب الفرنسي عام 1882 بين ماركسيين بقيادة جيوسد ولافارج، و"امكاناتيين" بقيادة مالون وبروس (وهم فوضويين تحولوا إلى إصلاحيين)، رحب إنجلز بالحدث على إنه شئ "حتمي" و"جيد"، وأن ذلك "الحزب الزائف [الامكاناتيين] هو ليس فقط حزب غير عمالي ولكنه ليس حزباً على الإطلاق، لأنه في الواقع لا يملك برنامجاً"59 ، وعلق قائلا "على ما يبدوا أن كل حزب عمالي في دولة كبيرة يمكن أن يتطور فقط من خلال الصراع الداخلي، بما يتماشى مع قوانين التطور الجدلي بوجه عام".60 ولكن في تعاملهما مع الاشتراكية الديمقراطية الألمانية، احتفظ ماركس وإنجلز بأعلى درجات الحدة النظرية. وعندما توحد فى 1875 حزبSDAP مع حزبADAV اللاسالي لكي يشكلا حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الألماني (لاحقاً الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني)، عارض ماركس وإنجلز هذه النقلة "كتهور من جانبنا"61 متضمناً تنازلات نظرية. وقد وجه ماركس إلى برنامج الوحدة نقداً عنيفاً62 موضحاً ليس فقط المدلولات الرجعية للصيغ اللاسالية مثل "قانون الأجور الحديدي" و"الحقوق المتساوية في المردودات غير المنقوصة للعمل" و"جمعيات المنتجين المدعومة من الدولة"، بل أيضاً تناول مسألة الطبيعة الطبقية للدولة في مواجهة الدعوة إلى "دولة الشعب الحرة"، منتقداً البرنامج لافتقاده مبدأ الأممية، وشاكياً من أن البرنامج "لا يطرح شيئاً من ناحية المطالب السياسية عدا تلك القديمة والتي لا تتعدى الشعائر الديموقراطية العامة المعروفة: حق الانتخاب العام، التشريع المباشر، العدالة الشعبية، الجيش الشعبي، الخ"63.
في عام 1877، ولكي يحافظ على هيمنة الماركسية في الحركة الألمانية، أخذ إنجلز على عاتقه مشروع ضد دوهرنج الضخم، وفى عام 1879 أرسل ماركس وإنجلز "خطاب دوري" لقادة الحزب منتقدين بشدة ظهور نزعات غير بروليتارية داخل الحزب رافضة للصراع الطبقي وبالتالي الطبيعة الطبقية للحزب، و "تعلن صراحة أن العمال جهلاء إلى درجة لا تؤهلهم لتحرير أنفسهم ويجب أن يتم تحريرهم من أعلى بواسطة محبي الإنسانية من البرجوازية الكبيرة والبرجوازية الصغيرة".64 وأيضاً في عام 1879 عارضا "ضعف ليبنخت غير المتوقع فى البرلمان الألماني"65 في مواجهة قانون بسمارك المعادي للاشتراكية، وعارضا كذلك التأييد الانتهازي لسياسة بسمارك المتعلقة بالتعريفة الحمائية وذلك بواسطة المجموعة البرلمانية لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي، ورداً على ذلك أعلن ماركس "أنهم أصيبوا بالبلاهة البرلمانية لدرجة تصورهم أنهم فوق كل نقد".66 ولكن لا يجب أن يضللنا هذا السيل المتواصل من النقد. فهو لا يعكس عداءً للاشتراكية الديمقراطية الألمانية، بل يعكس اهتمام ماركس وانجلز الاستثنائي بالتنظيم الذي كثيراً ما يشيران إليه بكلمة "حزبنا". وعلى الرغم من هجومهما العنيف على كل مظهر معلن من مظاهر الإصلاحية والتسليم بالديمقراطية البرجوازية، بقي ماركس وإنجلز مرتبطين بالحزب الألمانى بـ"روابط تضامن".67 وأصبح الحزب الألماني -بمباركتهما- النموذج للحزب الماركسي لبقية العالم. ما فشل ماركس وانجلز في استيعابه هو أن الخطر الرئيسي لا يكمن فيما قاله الحزب، ولكن فيما فعله، وفي ماهية الحزب أساساً. وقد برزت هذه المشكلة بوضوح بعد ذلك ببضع سنوات، فيما يسمى "الجدل التحريفي"، عندما طلب برنشتاين أن يتبنى الحزب سياسة إصلاحية خالصة. وفي رسالة مؤيدة كتب الاشتراكي البافاري إجناز آور لـبرنشتاين "عزيزي إدي، لا يقرر المرء رسمياً أن يفعل ما تطلبه ولا يقوله ولكن المرء يفعله. إن كل نشاطنا -حتى في ظل القانون المخزي المعادي للاشتراكية- كان نشاطاً لحزب إصلاحي اشتراكي ديمقراطي. إن الحزب الذي يتفهم الجماهير لا يمكن ببساطة أن يكون أي حزب آخر".68 يكمن أصل المشكلة في مفهوم العلاقة بين الحزب والطبقة العاملة، ذلك المفهوم الذي لم يعارضه ماركس وإنجلز بوضوح؛ مفهوم الحزب الواسع الذي ينمو باطراد، منظماً لأقسام متزايدة من البروليتاريا إلى أن يضم فى النهاية الغالبية العظمى. وكما كتب كريس هارمن "المهم عند الاشتراكي الديمقراطي هو أن الحزب يمثل الطبقة".69 وإذا مثّل الحزب الطبقة فيجب أن يحتوى على الاتجاهات المختلفة الموجودة بداخل الطبقة. وقد تقبل ماركس وإنجلز هذا المبدأ على الرغم من كفاحهما لتسييد الماركسية. ولهذا كتب إنجلز في 1890:"إن الحزب من الكبر بحيث أنه من الضروري أن يكون هناك نقاش مطلق الحرية بداخله... إن أعظم حزب في البلد لا يمكن أن يوجد بدون أن تعبر فيه الآراء المختلفة الموجودة به عن نفسها".70 إذا مثّل الحزب الطبقة في فترة من التوسع والاستقرار الرأسمالي يكون فيها جمهور الطبقة العاملة إصلاحي، فيجب على الحزب عندئذ أن يكون إصلاحياً أيضاً، حتى ولو لم يعلن ذلك صراحةً. ولكن العمال الإصلاحيين شئ والقادة السياسيين الإصلاحيين شئ آخر تماماً. إن وعي العامل العادي فى كثير من الأحيان هو خليط من عناصر متناقضة، ومن الممكن لهذا الوعي أن يتغير بسرعة كبيرة تحت ضغط حاجات العامل المادية وانخراطه المباشر في الصراع والتغيرات الدرامية فى الوضع السياسي. أما على الجانب الأخر، فإن وعي القائد متبلور بشكل محدد ومترابط (وهذا ما يجعله قائداً)، ولهذا فهو أكثر مقاومة للتغيير، علاوة على ذلك فإن القائد ليس عُرضة لنفس الضغوط المادية الموجودة على العامل، بل على العكس فغالباً القائد له مركزه الذى يعطيه الامتيازات (مثلاً كعضو فى البرلمان أو كزعيم نقابي عمالي). والنتيجة لذلك، هي أن علاقة تمثيل الطبقة العاملة فى المرحلة الإصلاحية ستتحول إلى علاقة معارضة وخيانة فى المرحلة الثورية. لكي يكون مع الطبقة في موقف ثوري، يجب على الحزب أن يتقدم الطبقة نسبياً في فترة ما قبل الثورة. لا يتوقف الحزب عن تمثيل مصالح الطبقة ككل، ولكن لكي يحقق ذلك يجب أن يقصر عضويته على أولئك الذين تتغلب فيهم مصالح الطبقة ككل على المكاسب الفردية والجزئية والقومية أو المكاسب الفورية، بمعنى آخر، الثوريين. كون ماركس لم يطور أو يبنى هذه الفكرة التى هى الفكرة الأساسية المبدئية لنظرية حزب ثوري يكمن فيما سميناه مسبقاً بـ"التطورية المتفائلة" التي شابت رؤيته في نمو وعي الطبقة العاملة السياسي والذي رأى أنه يتطور نسبياً بنعومة واتساق وإلى حد ما موازي لتطور الرأسمالية. لا يمكن أن يندهش المرء أو يلوم ماركس على عدم تخطيه لهذا الرأي. فخلال الجزء الأعظم من حياة ماركس لم تظهر مشكلة الإصلاحية كتهديد أساسي بأي حال من الأحوال، لقد كانت المهام الأساسية هي التغلب على التقاليد البرجوازية الصغيرة، والعصبوية، والتآمرية، والاشتراكية الطوباوية، للتنظيم الثوري -الموروثة عن الثورة الفرنسية، بالإضافة إلى مهمة تحقيق الاستقلال السياسي للبروليتاريا. لقد كانت إسهامات ماركس عظيمة في تحقيق البروليتاريا لهذه المهام فى معظم البلدان الأوربية. ولو كان - في سياق الصراع - قد "ثني العصا" في اتجاه الحتمية الاقتصادية فإن هذا مفهوم بشكل تام. ولكنه من الضرورى أيضاً أن نفهم إنه في مجال نظريته عن الحزب، فإن تراث ماركس - مهما كانت إنجازاته الإيجابية - كان شيئاً يجب تخطيه بمرور الوقت على يد الحركة الماركسية لو كان للرأسمالية أن تسقط.
الفصل الثاني: لينين وميلاد البلشفية برغم أن الماركسية عموماً - كما وضعها جرامشي - هى "فلسفة للعمل"، وبالتالي معادية للقدرية، إلا أن ماركس نفسه - كما وضحنا - لم يحرر نفسه تماماً من مفهوم قدري للمنظمة السياسية بسبب الظروف السائدة وتصميمه على تفادي الحلقية. إن الحزب السياسى للبروليتاريا سينشأ تدريجياً وعفوياً من الصراع الواسع للطبقة العاملة. ففى الاشتراكية الديمقراطية قوت هذه النزعة القدرية نفسها فى دائرة التنظيم وبعد ذلك توسعت فى نظرية النمو الرأسمالى والثورة البروليتارية وطبيعة النشاط الإنسانى نفسه. إن الممارسات البلشنية وأفكار لينين التنظيمية كانت بمثابة قطع مع هذه القدرية، وبذلك كانت خطوة هائلة للأمام بالنسبة للنظرية الماركسية ليس فقط مع الاشتراكية الديمقراطية. ولكن أيضاً مع ماركس. لينين فقط هو الذى أستبدل مفهوم الحزب العريض الذى "يمثل" الطبقة أو هو الطبقة ذاتها، بمفهوم حزب يتكون من أقلية (قبل المرحلة الثورية) هى طليعة الطبقة. والتى لكونها التعبير التنظيمى عن المنظور الاشتراكي للطبقة. واجب عليها الدفاع عن نفسها، والنضال ضد كل مظاهر الانتهازية. إن البلشفية لم تكن "فينوس" مولودة مكتملة النمو من الأمواج - لقد نمت وتطورت من خلال مجموعة من الصراعات الداخلية والخارجية، ولا يمكن رؤيتها أيضاً ببساطة كنتاج لعبقرية لينين التنظيمية. إن إعطاء لينين شكلاً مثالياً كما هو سائد فى الدوائر الماركسية إلى جانب نزعة المنظرين الستالينين فى تصوير التاريخ الثورى الروسى على إنه هناك بطلين هما الشعب الروسى ولينين (ومعظم الأفراد الآخرين ليسوا بشراً) قد خلقت صورة للبلشفية كأن لينين هو مخترعها مثلما أخترع واط المحرك البخارى. فى الواقع إن القطع مع التدريجية فى مجال التنظيم كان هو نفسه عملية تدريجية ونصف واعية فقط بالرغم من العديد من الصراعات الحادة والواعية. إن اللينينية هى نتاج استجابة ثورية نامية وقوية لواقع ملموس. ولفهم هذه الاستجابة يجب النظر إلى عناصر هذا الواقع التى جعلت منه شيئاً ممكناً. إن أول عامل قفز إلى الذهن كمصدر للبلشفية هو ما يسميه توني كليف (بالتقليد الاستبدالى فى الحركة الثورية الروسية). هذا التقليد كان بالقطع شديد القوة. ففى ستينات وسبعينات القرن الماضى كان أحياناً عشرات وأحياناً أخرى مئات المثقفين البطوليين والمثاليين يضعون أنفسهم ضد الحكم المطلق، فأحياناً يذهبون إلى الشعب كمعلمين ومنورين وأحياناً أخرى "يتصرفون نيابة عن الشعب" بأفعال إرهابية جريئة. وبفعل ذلك اكتسب هؤلاء النارودبيين الاحترام الأزلى وإعجاب الثوريين الروس ومن ضمنهم لينين على وجه الخصوص الذى يشير تكراراً إلى "إصرارهم المخلص وقوة عزيمتهم". ولتقوية تلك الفكرة يمكن ضم العديد من الأجزاء من سيرته ذات دلالة: التأثير القوى على لينين من قبل كتاب الصفوة مثل: شيرلينشفكى وتكاشيف، وبالطبع قدر أخاه الذى أعدم بتهمة إرهابية. ومع ذلك فإن الحديث السطحى لا يحتمل الفحص النقدى، لأنه يغفل حقيقة أن لينين قد نبتت أسنانه النظرية بالضبط من الصراع ضد النارودنية، وأنه عارض الإرهاب الفردى طول حياته، وأنه رفض تأييد الاستيلاء على السلطة عام 1917 حتى أصبح للبلاشفة أغلبية فى السوفيتات، وأنه شن هجوماً عنيفاً ضد كل أشكال "الانتفاضية" لمحاولات انتفاضات من قبل اقليات، فى المؤتمر الثالث للأممية الشيوعية عام (1921). لم يكن الإرهاب وإنما الوضع الذى أنتج الإرهاب هو العامل المهم فى تطوير أفكار لينين. فقد استطاع لينين أن يقاطع وبشكل فاصل النظريات الرومانسية والطوباوية للإرهاب، واستطاع أن يلتحم تماماً بنظرية الصراع الطبقي كرافع للثورة الاجتماعية، ولكنه لم يستطيع القطع مع حقيقة البوليس القيصري. فتحت القيصرية ظل القمع السياسى التام وبذلك تم حظر كل النشاطات النقابية والاضطرابية. فى مثل هذا الوضع كان النموذج الاشتراكي الديمقراطي لحزب جماهيري عريض يمثل الطبقة العاملة بكاملها من المستحيل. "فلا يمكن إلا للطوباوى الراسخ فقط أن يدعو لمنظمة عمالية واسعة.. فى ظل الحكم المطلق". في الواقع فإنه من ناحية محاربة البوليس القيصرى، كلما صغر التنظيم كلما كان ذلك أفضل. إن الحاجة إلى الفاعلية والتمرين القويين شديدة الارتباط بمسألة الحجم والسرية. فالحاجة إلى الفاعلية تطرق إليها لينين فى "ما العمل" والتى كانت تقريباً العامل الموضوعي الأساسي فى تحديد نجاح ذلك الكتاب فى ذلك الوقت. تعطى الأساس لمفهوم الثورى المحترف كأساس للتنظيم الثورى. فقد كتب لينين ملخصاً آراءه فى هذا الصدد قائلا: "في الدولة الاستبدادية. كلما اقتصرت عضوية مثل هذا التنظيم على الأفراد الذين يحترفون النشاط الثوري والذين دربوا على فن محاربة البوليس السياسى. كلما صعب القضاء على هذا التنظيم". إن إبراز العملية فى التأكيد على السرية والتدريب والاحتراف فى التنظيم يجب أن تكون واضحة. ولكن هذا العنصر من العملية المجردة أو ضرورة التنظيم فى نظرية لينين يمكن بسهولة تضخيمها. فإذا كانت الملاءمة الثورية هى الشئ الوحيد الذى تم أخذه فى الاعتبار، فيبقى على الأرجح أن نقول مع ليونارد شابيرد (والعديد من المعلقين الآخرين) "إن مفاهيم لينين قد اقتربت من أفكار نارودنايا فولجا التآمرية، وبعدت عن مفهوم ماركس للدور التاريخى للطبقة بكاملها". واقع الأمر لم يكن كذلك. فذلك القلب الصلب من الثوريين المحترفين لم ينظر لهم كفاية فى حد ذاتهم، وإنما كوسيلة. وقد شدد لينين على إنه كلما قوي قلب الحزب "كلما كبر عدد الأفراد من الطبقة العاملة ومن الطبقات الإجتماعية الأخرى الذين يستطيعون الانضمام للحركة وممارسة نشاط فيها". من هنا فإن منظور لينين كان دائماً منظور حركة طبقية عريضة ضد السلطة المطلقة. ولكن يقودها حزب طليعى. "نحن حزب طبقة، ولذلك فتقريباً كل الطبقة (وفى أوقات الحرب، وحقبات الحرب الأهلية، الطبقة بكاملها) يجب أن تعمل تحت قيادة حزبنا". علاوة على ذلك، فإذا كانت الضرورة العملية فقط هى التى حددت فكر لينين، فأفكاره سيكون لها أهمية محلية ومؤقته. كانت البلشفية لتثبت أنها ظاهرة روسية خاصة استثناء عن القاعدة، بدلا من أساس لحركة وتقليد أممى واسع. فى الواقع لإن العناصر التآمرية فى مفهوم لينين محددة تاريخياً ويعترف لينين بذلك: "فى ظروف الحرية السياسية يبنى حزبنا بشكل كامل على مبدأ الأنتخاب. فى ظل الأتوقراطية يكون هذا غير عملي بالنسبة لآلاف العمال الذين يشكلون الحزب". وإذا كان مستوى القمع هو ما جعل تأسيس حزب عريض على النمط الغربي مستحيل، فإن الوضع الإجتماعي والسياسي الخاص فى روسيا والاتجاهات فى داخل الحركة الثورية هى ما دفعت لينين نحو رؤى نظرية جديدة وجعلته قادراً على أخذ خطوة أمام نموذج الاشتراكية الديمقراطية بدلا من خطوة للخلف نحو التآمرية، لذلك يجب فحص هذا الموضوع. إن الفرق بين مهام الحركة الثورية فى أوروبا الغربية وروسيا يكمن فى أن الرأسمالية فى الغرب كانت قد رسخت تماماً، بينما الرأسمالية الرويبة كانت ما تزال وليدة فلذلك بينما كانت الماركسية تعرض نفسها فى الغرب بشكل مباشر كنظرية إحاطة البروليتاريا للرأسمالية، ظهرت الماركسية فى روسيا للعديد كنظرية لحتمية النمو الرأسمالي. وبما أن السلطات قد اعتبرت الإرهابيين الخطر الأساسى - وقد زعم الإرهابيون أن روسيا يمكنها تجنب الرأسمالية عن طريق ثورة فورية - كان النقد الماركسي للإرهاب والتوكيد على حتمية الرأسمالية محل ترحاب لفترة، فعلى الأقل كان ينظر له كأهون الشرين. وهذا أدى إلى ما أصبح معروفاً بالماركسية الشرعية وأصبحت الماركسية موضة حقيقية: "تم تأسيس المجلات والصحف الماركسية، وأصبح تقريباً كل فرد ماركسى، وأطروا على الماركسيين وتوددوا لهم. وأبتهج ناشروا الكتب للبيع غير العادى للأدبيات الماركسية". وبشكل حتمي، ومثل هذا الوضع حدث تحالف "لعناصر ظاهرة الاختلاف" وبشكل خاص فالذين سموا أنفسهم ماركسيين كانوا هؤلاء الذين نظروا إلى الماركسية كضرورة وكأمر تقدمى، ولكن الذين أيدوا الواقع الرأسمالية، والذين كانت الاشتراكية بالنسبة لهم بلاغة غير واضحة المعالم بالنسبة للمستقبل البعيد. (الممثل الرئيسى للاتجاه الثانى كان بيوترستروف. والذى كان يتعاون من قبل مع لينين وبيلخانوف، والذى أسس سنة 1905 حزب الكاديت البرجوازى الديموقراطى) هذا كان يعنى أنه منذ وقت مبكر للغاية شعر لينين أن عليه أن يختار بشكل صارم جداً هؤلاء الذين أرادو فعلاً الصراع من بين العديد من الذين تفوهوا بعبارات راديكالية. كان هذا عاملاً أساسياً فى تحديد عناد لينين المذهبى وخصوصاً إصراره على المفارقة بين ما يقوله الناس وما كانوا فعلاً مستعدين لفعله. هذه القدرة الأخيرة التى كانت نامية بشكل واضح عند لينين والتى هى إحدى الملامح المدهشة فى كل كتاباته. كان لها أن تلعب دوراً مهولاً فى نمو البلشفية كحزب مستقل. إن الإجابة الماركسية الثورية لمشكلة رؤية الرأسمالية كتقدمية وفى نفس الوقت الحفاظ على استقلال البروليتاريا التام للصراع ضد الرأسمالية تقع فى نظرية هيمنة البروليتاريا فى الثروة البرجوازية. فبدءا ببليخانوف (إن الثورة الروسية ستنجح كثورة عمالية أو أنها لن تنجح على الإطلاق)، علا الرغم من تركه لهذه الرؤية بعد ذلك. والتى تبناها وصقلها لينين، هذه النظرية كان لها أن تصبح سمة البلثفية فى مرحلة ما قبل سنة 1917. إن جوهر هذه النظرية هو أن البرجوازية الروسية قد ظهرت متأخراً على الساحة بعدما توقفت البرجوازية عن كونها قوة ثورية على النطاق العالمى. وبناء على ذلك فإن مهمة قيادة ثورة ضد الحكم المطلق ستقع على البروليتاريا التى، برغم صغرها، كانت تنمو بسرعة فى الصناعات الحديثة الضخمة، وكانت تستطيع التحالف مع القوى الهائلة للتمرد الفلاحى. من أجل تحقيق هذه المهمة على البروليتاريا أن تتبنى الإطاحة بالقيصرية كمطلبها الأول والأكثر أهمية، وأن تضع نفسها فى طليعة كل صراع من أجل الديمقراطية والحرية السياسية. كانت هذه هى النظرية التى ولدت الخلاف بين لينين وبين مختلف الاتجاهات التى جمعها تحت أسم "الاقتصاديين". إن المختلفين الأساسيين "للاقتصادية" فى ذلك الوقت كانوا دابوتشايا ميسل (فكر العمال)، جريدة تنشر فى سانت بيتر سبرج 1897 - 1902، ورادوثيى ديلو (مهمة العمال) وهى مجلة ناطقة بلسان اتحاد الاشتراكيين الديمقراطيين الروس فى الخارج (1899 - 1903) وكانت الأخيرة تتخذ موقفاً يمكن وصفه بشكل أدق كنصف (اقتصادية). إن المحتوى الأساسى "للاقتصاديين" هو أنه يجب على الاشتراكية الديمقراطية ألا تركز عملها فى الصراع ضد الحكم المطلق، ولكن فى خدمة وتنمية الصراع الاقتصادى للعمال، وانبثقت العديد من الأفكار الأساسية للبلشفية من الخلاف مع "الاقتصادية". من أجل فهم وتقييم هذه الأفكار سيكون من الضرورى النظر فى هذه الخلافات بشئ من التفصيل - ولكن حتى قبل ذلك يجب النظر إلى السياق الذى حدثت فيه هذه الاختلافات والسؤال ببساطة: لماذا كانت بهذه الأهمية ؟ إن السبب الرئيسى هو أن لينين رأى أن "الاقتصادوية" تقود حتمياً إلى التخلى عن هيمنة البروليتاريا فى الثورة الديمقراطية القادمة؛ بإرساء تقسيم عمل يكون العمال فيه محددون بصراع النقابات، وأن يتركوا السياسة للبرجوازية. فى الواقع كان التأييد الصريح لمثل هذا التقسيم فى الوثيقة المعروفة باسم (الكريدو) أى (العقيدة) التى كتبها ي. د. كوسكوفا من اتحاد الاشتراكيين الديمقراطيين فى الخارج، هو الذى حدث لينين أن يشن الهجوم ضد "الاقتصادوية" بـ "احتجاج الاشتراكيين الديمقراطيين" فى أغسطس عام 1899. وقد كتب كوسوكوفاد (الكريدو): بالنسبة للينين كان يعنى هذا الطريق خيانة الثورة؛ لأن نشاط المعارضة الليبرالية، (أي البرجوازية) كان عاجزاً تماماً عن معارضة ثورية متسقة للحكم المطلق. وقد تمسك بأن أى محاولة لتقليل مهام البروليتاريا والحركة الاشتراكية الديمقراطية ستعود على البرجوازية بالفائدة، ونظر إلى أى نزعة نحو "الاقتصادوية" كمؤدية فى هذا الاتجاه وبهذه الطريقة، فإن المناظرة حول "الاقتصادوية"، قد أرهمت بالإشكالية الجوهرية للماركسيين الروس خلال السبعة عشر عاماً التى تلت - أدوار ومهام البرجوازية فى الثورة - باستمرارية جوهرية موجودة بين موقف "الاقتصادوية" المبكر والموقف اللاحق للمناقشة بأن الدور القيادى يجب أن يكون للبرجوازية. من هنا يمكننا رؤية أن لينين كان أيضاً على صواب عندما ربط "الاقتصادوية" بالاتحاد العالمى للإصلاح أو "التحريفية" فى الاشتراكية الديمقراطية. وهو ما فعله بطريقة سليمة فى أول "ما العمل" لقد كرس "الاقتصادويون" الانقسام القائم بين الاقتصاد والسياسة. ودافعوا مع برانشتاين عن أهمية "الحركة" (المطالب الفورية) فى مقابل (الهدف النهائى) (الاشتراكية، أو فى هذه الحالة الإطاحة بالقيصرية). إن الهجوم العنيف بالنسبة للينين كان يعني أخذ المسائل المختلف عليها من جذورها ومتابعة منطقة وحجج خصمه بلا رحمة: ولذلك فتلك المساجلات؛ بالرغم من أنها نشأت من موضوعات محددة، إلا أنها تحتوى على أهمية عامة: إن نتاج الصراعات ضد "الاقتصادويين" كان "ما العمل" الذى كان له باستحقاق تأثيراً قوياً على النظرية الماركسية، وفى الممارسة فى كل مكان فى العالم. ولكنى أطرح فى نفس الوقت أنه قد صور خطأ على أنه النص الماركسى المعيارى فى نظرية الحزب: لذلك فإن أى دراسة نقدية للنظرية الماركسية للحزب يجب أن تنظر بجدية تامة لهذا العمل. "ما العمل" يلخص كل آراء لينين ضد "الاقتصادوية" وقضيته الخاصة ببناء منطقة ثورية على نطاق قومى تقوم على أساس كادر من المحترفين الثوريين وجريدة لكل روسيا. لذلك فالعديد من النقاط التى يحتويها لها طبيعة عملية من النوع الذى أشرنا إليه من قبل فى المقال، ولكن الموضوع الأساسى هو العلاقة بين العفوية والوعى فى تنمية الحركة الثورية. إن الاقتصادويين "الذين تمسكوا بأن السياسة تمشى وراء الاقتصاد. وأن لينين والايسكراويين "صغروا من حجم العنصر العفوى" و "ضخموا الوعى" ولكن بالنسبة للينين فحتى هذه الطريقة لعرض المشكلة كانت غير مرضية على الإطلاق. فلم تكن أهميتها تقع بالتحديد فى المطالب التنى دمغتها على الوعى وعلى التنظيم. إن برنامج "رابوشيى ديلو" يقول: "نحن تعتبر أن أهم فى الحياة الروسية التى ستحدد بشكل أساسى المهام وطبيعة نشاط النشر فى الاتحاد. هى حركة العاملة الجماهيرية التى صعدت فى السنوات الأخيرة". ويعلق لينين: "إنه لا يمكن الخلاف على أن الحركة الجماهيرية هى ذات أهمية قصوى، ولكن فى هذا الشأن هى كيف نفهم عبارة أن "حركة الطبقة العاملة الجماهيرية" تحدد المهام" ؟ يمكن فهمها بأحد المعنيين. إما أنها تعنى الانحناء لعفوية هذه الحركة أى اقتصار دور الاشتراكية الديمقراطية على مجرد التبعية لحركة الطبقة العاملة - أو أنها تعنى أن الحركة الجماهيرية تضع أمامنا مهايا نظرية وسياسية وتنظيمية جديدة، أكثر تعقيداً بكثير من المهام التى اكتشفنا بها فى مرحلة ما قبل صعود الحركة الجماهيرية". إن المفهوم الجدلى للعلاقة بين العفوية والوعى، الحركة الجماهيرية والحزب، يمثل خطوة هائلة للأمام بالنسبة للنظرية الماركسية، وهى تتقدم عن أى إسهام سابق فى هذه المشكلة (وفى ضمنها إسهامات ماركس نفسه وخصوصاً إسهامات الاشتراكية الديمقراطية الألمانية). وهى فى الأساس نقطة البداية الضرورية لنظرية ثورية حقيقية فى الحزب؛ لأنها قطع راديكالى مع القدرية. "نحن الاشتراكيين الديمقراطيين الثويين، على العكس، غير راضين بهذا التقديس للعفوية الموجودة حالياً "بالنسبة للينين، فإن نمو الصراع الطبقى نفسه، حتى شكله الاقتصادى، هو عملية الانتقال من "العفوية" إلى "الوعى". "إن الإضرابات التى حدثت فى روسيا فى السبعينات والستينات (وحتى فى النصف الأول من القرن التاسع عشر) وكانت مصحوبة بالتحطيم "العفوى" للماكينات. الخ. مقارنة بهذه "التمردات" يمكننا وصف إضرابات التسعينات ك "راضية" إلى الحد الذى يوضح التقدم الذى أحرزته الطبقة العاملة فى هذه الفترة. هذا يوضح أن "العنصر العفوى" فى الأساس لا يمثل شئ أكثر أو أقل من الوعى فى شكله الجنينى". لذلك يرى لينين أن واجب الثورى هو دائماً مساعدة العنصر الواعى والعمل على التغلب على العفوية. ولكن لينين لا يجادل فحسب من أجل تنظيم فى مواجهة عدم تنظيم أو قيادة فى مواجهة "ذيلية" "الاقتصادويين" ولكن الشئ الجوهرى فى محاربته "الاقتصادويين" وفى نظرته لطبيعة مهام الحزب هو رفضه لمقولة أن الوعى الطبقى البروليتارى يمكن أن ينمو تدريجياً على أساس تراكم صراعات اقتصادية. فكما كتب لوكاتش: "إن استحالة التطور الاقتصادى للرأسمالية إلى الاشتراكية قد اثبت بوضوح فى مجادلات برانشتاين ومع ذلك فإن نظيره الغيديولوجى قد عاش بدون تناقض فى أذهان العديد من الثوريين الأوروبيين المخلصين. ولم يكن حتى معتبراً مشكلة أو خطراً". وكان موقف لينين فى هذا الصدد متطرفاً، ولا يقبل المساومة: "إن وعى الطبقة العاملة لا يمكن أن يكون وعياً سياسياً حقيقياً حتى يكون العمال قادرين على الرد على كل أشكال الاستبداد، الظلم، العنف وسوء المعاملة دون النظر إلى الطبقة المتضررة إلا إذا تدربوا. علاوة على ذلك، أن يردوا من وجهة نظر اشتراكية ديمقراطية وليس غيرها. إن وعى الجماهير العاملة لا يمكن أن يكون وعياً طبقياً حقيقياً، إلا إذا تعلم العمال من حقائق وأحداث ومواضيع سياسية ملموسة أن يضعوا نصب أعينهم كل طبقة اجتماعية بكل مظاهر حياتها الفكرية والأخلاقية والسياسية، إلا إذا تعلموا تطبيق التحليل المادى لكل نواحى حياة ونشاط كل الطبقات. والشرائح ومجموعات الشعب". ولذلك: إن "الوعى السياسى الطبقى لا يمكن أن يقدم للعمال إلا من الخارج، أى من خارج الصراع الاقتصادى. من خارج محيط العلاقات بين العمال والمستخدمين". عملياً، كان هذا يعنى أن على الاشتراكيين الديمقراطيين ليس فقط "الذهاب بين العمال" ولكن "يجب تحريك العمال ليتخذوا موقفاً فى مساندة كل ضحايا الحكم المطلق. ومن ضمنهم مجموعات مثل الأقليات الدينية والطلبة. "إن المثل الأعلى للاشتراكيين الديمقراطيين، لا يجب أن يكون سكرتير النقابة، ولكن المدافع عن الشعب.. القادر على الاستفادة من كل حدث مهما كان صغيراً، من أ جل نشر إيمانه بالاشتراكية ومطالبه الديمقراطية". وكان أساسياً لهذه الإستراتيجية جريدة لكل روسيا ترقب بعين يقظة كل مظاهر الحياة السياسية والاجتماعية فى روسيا وقادرة على شن حملات سياسية على النطاق القومى "بغير أداة سياسية، لا توجد حركة سياسية تستحق هذا الاسم فى أوروبا الآن". قد يكون من الضرورى الإشارة بشكل عابر إلى أن لينين بالطبع لم ينظر باى حال إلى تنويعة القوى هذه كتعديل أو تسوية للأساس. |