الفصل العاشر
خاتمة

في الأسطرالتي ختمتُ بها الفصل السابق(1) أودت تنبؤا أو بالأحرى تخوفا جرى تأكيده بعد بضعة أشهر، كما يعلم القراء. لقد استخدم راديك نقده للثورة الدائمة كمبرر للانشقاق عن المعارضة. إن كتابنا كله يبرهن، كما نأمل، أن انتقال راديك إلى معسكر ستالين لم يفاجئنا قط. ولكن الكفر له مستوياته ودرجات انحطاطه. وفي البيان الذي يعلن فيه راديك توبته، يعيد الاعتبار لسياسة ستالين في الصين. هذا يعني الانحدار إلى أحطّ مستويات الخيانة. ولم يبق لي سوى أن أستشهد بمقطع من ردّي على "إعلان التوبة" الذي أصدره راديك وبريوبراجنسكي وسميلغا(2)، هذه التوبة التي أدرجت أسماءهم على لائحة الحقراء السياسيين السوداء:

"وكما هو جدير بجميع المفلسين الذين يحترمون أنفسهم، أبى هذا الثلاثي إلاّ أن يتستر وراء الثورة الدائمة. إن الثورة الصينية هي أعظم تجربة مأساوية في كل تاريخ انهزامات الانتهازية المعاصر. فما هو موقفهم منها ؟ يسعى هذا الثلاثي من المستسلمين إلى صرف النظر عنها بواسطة قسَمٍ رخيص يؤكدون فيه أن لا علاقة لها بنظرية الثورة الدائمة.

"لقد دافع راديك وسميلغا بعناد عن إخضاع الحزب الشيوعي الصيني للكيومنتانغ البرجوازي ليس فقط إلى حين قيام تشانغ كاي تشيك بانقلابه العسكري ولكن بعد ذلك الحين أيضا. أما بريو براجنسكي، فقد تمتم بشيء مبهم كعادته دائما عندما تطرح القضايا السياسية على بساط البحث. ويجدر الانتباه إلى أن جميع الذين دافعوا في داخل صفوف "المعارضة" عن إخضاع الحزب الشيوعي للكيومنتانغ قد انتهوا بالاستسلام. وما من معارض ظل مخلصا لشعاراته يحمل هذه الوصمة، التي هي وصمة عار كبيرة. فبعد ثلاثة أرباع القرن من ظهور "البيان الشيوعي"، وبعد ربع قرن من تأسيس حزب البلاشفة ما زال هؤلاء "الماركسيون" السيئو الطالع يظنون أنه بالإمكان الدفاع عن إبقاء الشيوعيين في قفص الكيومنتانغ ! وفي رده على اتهاماتي له في تلك الفترة، قدم راديك نفس الحجة التي قدمها في رسالة توبته اليوم: أعلن تخوفه من "إنعزال" البروليتاريا في حال انسحاب الحزب الشيوعي من الكيومنتانغ البرجوازي. وكان راديك، قبل ذلك بوقت قصير، قد أطلق على "حكومة كانتون" لقب حكومة عمالية وفلاحية فساعد ستالين بذلك على تغطية سياسة إخضاع البروليتاريا للبرجوازية. هذه الأفعال المخزية الناتجة من هذا التعامي وهذه البلاهة وهذه الخيانة الصريحة للماركسية، بماذا يجري تغطيتها ؟ بمذا حقا ؟ بإدانة الثورة الدائمة.

"حتى في فبراير عام 1928 كان راديك يبحث عن مبررات لاستسلامه، فأيد في الوقت المناسب قرارا صدر في الشهر نفسه عن اجتماع اللجنة المركزية للكومنترن. كان هذا القرار يصم التروتسكيين بالانهزامية لأنهم يسمون الهزائم هزائم، ولأنهم رفضوا اعتبار الثورة-المضادة في الصين أعلى مستوى من مستويات الثورة الصينية. وقد أعلن هذا القرار ذاته في فبراير عن التحضير للانتفاضة المسلحة ولبناء السوفييت. إن أي إنسان لا يعوزه الحس والخبرة السياسيين كان يعتبر هذا القرار مثلا لأقذر أنواع نزعة المغامرة وأكثرها بعدا عن المسؤولية. غير أن راديك تبنى القرار. وعالج بريوبراجنسكي الموضوع بطريقة لا تقل براعة عن طريقة راديك ولكن من زاوية أخرى. فكتب يقول إن الثورة قد انهزمت فعلا وأن هزيمتها ستطول. ولن تقوم ثورة جديدة في المستقبل القريب. هل يجدر بنا أن نهدر الوقت سدى في نقاش تافه حول الصين مع الوسطيين ؟ حول هذا الموضوع كتب بريوبراجنسكي المؤلفات الطوال. وعندما قرأتها في "الما-أتا"، شعرت بالخجل. فتسائلت مرارا: ماذا تعلم هؤلاء في مدرسة لينين ؟ كانت منطلقات بريوبراجنسكي تتعارض كل التعارض مع منطلقات راديك ومع ذلك فقد وصلا إلى استنتاجات واحدة: فكلاهما مدفوع برغبة جامحة لكي يعانقه ياروسلافسكي بشكل أخوي بعد أن ينقيّ منجينسكي الجو بينهما(3) طبعا، لقد قاموا بكل هذا لصالح الثورة. إنهم ليسوا طلاب مناصب. حاشى وكلا. إنهم مجرد أشخاص لا حول لهم ولا قوة قد أعلنوا إفلاسهم العقائدي.

"في مقابل القرار المشهور الذي صدر عن اللجنة المركزية للكومنترن في اجتماعها في فبراير 1928، كنتُ قد اقترحت العمل على تكتيل العمال الصينيين حول مطالب ديموقراطية بما فيها مطالب عقد جمعية تأسيسية في الصين. ولكن الثلاثي السيئ الطالع سقط عند هذه النقطة في اليسارية-المغالية، فكان موقعهم رخيصا لم يلزمهم بشيء. شعارات ديموقراطية ؟ كلا وأبدا. "ذلك هو الخطأ الجسيم الذي ارتكبه تروتسكي". إننا لا نرضى إلاّ بمجالس السوفييت للصين؛ وليس بأي شيء آخر. عن اذنكم يا سادة، ولكن من الصعب أن نجد موقفا أكثر تفاهة من موقفكم. إن شعار مجالس السوفييت في فترة الردة البرجوازية هو لغو طفولي، إنه استهزاء بمجالس السوفييت. ولكن حتى إبان الثورة، أي إبان فترة بناء السوفييت مباشرة، لم نسحب الشعارات الديموقراطية. ولم نسحبها إلاّ بعد أن اصطدمت مجالس السوفييت الحقيقية، التي كانت قد استولت على الحكم، بمؤسسات الديموقراطية ذاتها على مرأى من الجماهير. هذا يسمى في لغة لينين (وليس في لغة الدعيّ ستالين وجوقته): عدم القفز عن المرحلة الديموقراطية من تطور البلد.

"بدون برنامج ديموقراطي، يحوي المطالبة بجمعية تأسيسية وبيوم عمل من ثماني ساعات، وبمصادرة الأراضي، وباستقلال الصين الوطني، وبحق تقرير المصير لشعوب الصين يبقى الحزب الشيوعي الصيني موثوق الأيدي والأرجل ومضطرا إلى إخلاء الطريق بهدوء أمام الاشتراكيين-الديموقراطيين الصينيين ليحتلوا مكان الحزب الشيوعي بمساعدة ستالين وراديك وشركاهما.

"وهكذا، فبالرغم من أن راديك قد واكب المعارضة منذ تكوينها، إلا أنه خفي عنه أهم شيء في الثورة الصينية عندما دافع عن إخضاع الحزب الشيوعي للكيومنتانغ البرجوازي. لقد تجاهل راديك الثورة-المضادة في الصين عندما دعم الاتجاه الواعي إلى العمل المسلح بعد مغامرة "كانتون". وها هو اليوم يقفز عن مرحلة الثورة_المضادة وعن النضال من أجل الديموقراطية بإهماله مهام المرحلة الانتقالية وبتمسكه بالأفكار المجرّدة التي تتكلم عن مجالس السوفييت خارج الزمان والمكان. ومقابل هذا كله، يقسم راديك أن لا علاقة له بالثورة الدائمة. هذا أمر يدعو إلى الإمتنان ويجلب العزاء…

"إن نظرية راديك وستالين المعادية للماركسية تعني بالنسبة للصين والهند وسائر بلدان الشرق تكرار تجربة الكيومنتانغ بشكل معدّل ولكنه ليس أفضل من ذي قبل.

"بناء على تجربة الثورتين الصينية والروسية، وبناء على تعاليم ماركس ولينين التي جرى اختبارها في ضوء هاتين الثورتين، تؤكد المعارضة ما يلي:

"إن شعار "دكتاتورية العمال والفلاحين الديموقراطية" الذي يطرح في مقابل شعار "دكتاتورية البروليتاريا" التي تقود الفلاحين وتنفذ البرنامج الديموقراطي، ما هو إلاّ مجرد أسطورة من الأساطير وعملية خداع ذاتي، بل أسوأ من ذلك: إنه نوع من "الكرينسكية" أو "الكيومنتانغية".

"بين نظام حكم كرينسكي وتشانغ كاي تشيك من جهة، وبين دكتاتورية البروليتاريا من جهة أخرى لا ولن يوجد نظام حكم ثوري وسيط. وكل من يتقدم بمثل هذه الصيغة الفارغة يخدع عمال الشرق بنذالة، ويمهّد لكوارث جديدة.

"إن المعارضة تتوجه إلى عمال الشرق قائلة: إن المستسلمين الذين أفلسوا نتيجة المؤامرات في داخل الحزب، يساعدون ستالين على زرع بذور الوسطية وعلى ذر الرماد في عيونكم وصم آذانكم وتخدير عقولكم. فمن حهة، غدوتم بلا حول ولا قوة تجاه دكتاتورية برجوازية صلفة إذ مُنعتم من النضال من أجل الديموقراطية، ومن جهة أخرى، يجري تضليلكم بصورة لدكتاتورية تجلب الخلاص هي ليست دكتاتورية البروليتاريا، تمهد الطريق أمام تقمّص الكيومنتانغ شكلا جديدا في المستقبل، أي تمهد لهزائم جديدة لثورة العمال والفلاحين.

إن هؤلاء المبشرين هم خونة. فيا عمال الشرق: تعلموا أن لا تثقوا بهم، تعلموا أن تمقتوهم، تعلموا أن تطردوهم من صفوفكم !…".


(1) الفصل 8 في هذا الكتاب. (المترجم)
 

(2) أوجين بريوبراجنسكي: بلشفي قديم. عضو اللجنة المركزية منذ عام 1917. عضو المكتب السياسي والأمانة العامة للحزب بين 1919 و1921. اقتصادي مرموق وأحد قادة المعارضة اليسارية بين عام 1923 و1928. فصل من الحزب في المؤتمر الخامس عشر. نفي عام 1928. استسلم لستالين عام 1929. اختفى في سجون منظمة الشرطة السرية السوفييتية.
إيفان سميلغا: بلشفي قديم. عضو اللجنة المركزية منذ أبريل عام 1917. أحد مؤسسي الجيش الأحمر. عضو في مجلس الحرب الثورية. قائد المعارضة اليسارية (1923-1929). فصل من الحزب في المؤتمر الخامس عشر ونفي إلى سيبريا. استسلم عام 1929. أعدم في محاكمات موسكو. (المترجم)
 

(3) كان فنجينسكي في ذلك الحين رئيسا للشرطة السياسية. وكان ياروسلافسكي أحد رؤساء "لجنة التفتيش المركزية" في الحزب، وكان نشطا بشكل خاص في التهجم على المعارضة وفي طرد أعضائها من الحزب. (ل. ت.).